[قول الحارث المحاسبي في إثبات الصفات]
[وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمى فهم القرآن قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ:
وأن النسخ لا يجوز في الأخبار قال: لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وصفاته ولا أسماءه يجوز أن ينسخ منها شيء.
إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب وأنه لا يبصر ما قد كان ولا يسمع الأصوات ولا قدرة له ولا يتكلم ولا كلام كان منه وأنه تحت الأرض لا على العرش جل وعلا عن ذلك.
فإذا عرفت ذلك واستيقنته: علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} [يونس:٩٠] الآيات وقال: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:٣١] وقال: قد تأول قوم: أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار لأنه آمن عند الغرق وقال: إنما ذكر الله أن قوم فرعون يدخلون النار دونه وقال: {فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ} [هود:٩٨] وقال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:٤٥] ولم يقل بفرعون.
قال: وهكذا الكذب على الله; لأن الله تعالى يقول: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:٢٥] كذلك قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت:٣] فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علما بشيء لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر أن يصنعه -نجده ضرورة- قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤] قال: وإنما قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} [محمد:٣١] إنما يريد حتى نراه فيكون معلوما موجودا; لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوما من قبل أن يكون; ويعلمه موجودا كان قد كان; فيعلم في وقت واحد معدوما موجودا وإن لم يكن وهذا محال.
وذكر كلاما في هذا في الإرادة.
إلى أن قال: وكذلك قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:١٥] ليس معناه أن يحدث له سمعا ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم وقد ذهب قوم من أهل السنة أن الله استماعا في ذاته فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول; لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقل فهم عما أدركته أذنه من الصوت، وكذلك قوله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:١٠٥] لا يتحدث بصرا محدثا في ذاته وإنما يحدث الشيء فيراه مكونا كما لم يزل يعلمه قبل كونه.
إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨] وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:٥] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:٤] وقال لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:٥٥] الآية وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٨] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف:٢٠٦] وذكر الآلهة: أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا حيث هو فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:٤٢] أي: طلبه، وقال: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:١] قال أبو عبد الله: فلن ينسخ ذلك لهذا أبداً.
كذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:٨٤] وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:١٦] وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:٣] وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:٧] الآية فليس هذا بناسخ لهذا ولا هذا ضد لذلك.
واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته فيكون في أسفل الأشياء أو ينتقل فيها لانتقالها ويتبعض فيها على أقدارها ويزول عنها عند فنائها جل وعز عن ذلك وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال; فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائنا كما هو على العرش; لا فرقان بين ذلك ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه; لأن كل من يثبت شيئا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه واحتجوا بهذه الآيات أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائنا ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا: لا كالشيء في الشيء.
قال أبو عبد الله: لنا قوله:
{حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:٣١] {فَسَيَرَى اللَّهُ} [التوبة:١٠٥] {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:١٥] فإنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجودا ويسمعه مسموعا ويبصره مبصرا لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر.
وأما قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا} [الإسراء:١٦] إذا جاء وقت كون المراد فيه.
وإن قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨] الآية ..
{أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] {إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:٤٢] فهذا وغيره مثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:٤] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠] هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش فوق الأشياء كلها منزه عن الدخول في خلقه لا يخفى عليه منهم خافية; لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده; لأنه قال:
{أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:١٦] يعني: فوق العرش والعرش على السماء; لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء وقد قال مثل ذلك في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:٢] يعني على الأرض; لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:٢٦] يعني: على الأرض; لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١] يعني فوقها عليها.
وقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] ثم فصل فقال: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:١٦] ولم يصل فلم يكن لذلك معنى -إذا فصل قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] ثم استأنف التخويف بالخسف - إلا أنه على عرشه فوق السماء.
وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:٥] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:٤] فبين عروج الأمر وعروج الملائكة ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] فقال: صعودها إليه وفصله من قوله إليه كقول القائل: أصعد إلى فلان في ليلة أو يوم وذلك أنه في العلو وإن صعودك إليه في يوم فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٨] ولم يقل عنده.
وقال فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:٣٦ - ٣٧] ثم استأنف الكلام فقال: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:٣٧] فيما قال لي إن إلهه فوق السموات.
فبين الله سبحانه وتعالى أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال: وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب ولو أن موسى قال: إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته أو في بدنه أو حشه.
فتعالى الله عن ذلك ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح.
قال أبو عبد الله: وأما الآي التي يزعمون أنها قد وصلها - ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه - فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:٧] فأخبر بالعلم ثم أخبر أنه مع كل مناج ثم ختم الآية بالعلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧] فبدأ بالعلم وختم بالعلم: فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا; لا يخفون عليه ولا يخفى عليه مناجاتهم.
ولو اجتمع القوم في أسفل وناظر إليهم في العلو.
فقال: إني لم أزل أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقا - ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق - فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة وقالوا: هذا منكم دعوى خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة; لأن من هو مع الاثنين فأكثر; هو معهم لا فيهم ومن كان مع شيء خلا جسمه وهذا