للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[هل آيات الصفات من المتشابه؟]

[وإن وافقت ظاهره فتأويل ما أخبر الله به في الجنة].

هنا مسألة: هذا التقرير مفروض على أن هيئات الصفات تدخل بوجه ما في المتشابه، فهنا طريقتان:

الأولى: أن يقال: إن آيات الصفات ليست من المتشابه.

الثانية: أن يقال: إنه إذا قصد التشابه هنا فإن المقصود أنها لا تعلم من حيث الكيفية، أي: أن إطلاق القول بأن آيات الصفات من المتشابه غلط؛ ولهذا لم يطلقه أحد من السلف، وإن كان السلف أجمعوا على أن كيفية الصفات لا يعلمها إلا الله.

فهذا مقام، والقول بأن آيات الصفات من المتشابه مقام آخر.

[فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:١٠٠] وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:٥٣] وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:٥٩] وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله.

وتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد الله تعالى بعلمها، وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف -كـ مالك وغيره-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.

فالاستواء معلوم يعلم معناه ويفسر ويترجم بلغة أخرى، وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

وقد روي عن ابن عباس ما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل، فمن ادعى علمه فهو كاذب.

وهذا كما قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وكذلك علم وقت الساعة ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى].

إذاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) مع أن المعاني في هذا الثواب معلومة، وهذا متفق عليه بين أهل السنة والمتكلمين، فالماء المذكور في الجنة والخمرة المذكورة في الجنة والنعيم المذكور في الجنة هو من حيث المعنى معروف، وإن كان من حيث الماهية والحقيقة لم يتصور؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه هذا.

أما أن يكون بعض النعيم لم يحدث به الناس؛ حيث إن من نعيم الجنة ما لم يذكر أصلاً؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عن ربه: (ولا أذن سمعت) ومن النعيم ما حدث به، أي جاء ذكره في الكتاب أو في السنة لكنه لا يتحقق تصوره في القلب أو في العقل؛ لأن ماهيته تناسب ذاك المقام.

وهذا النعيم الأخروي الذي يقر به عند أهل السنة والمتكلمين دليل على أن صفات الباري سبحانه وتعالى صفات تليق به وإن وقع الاشتراك بينها وبين صفات المخلوقين في بعض الموارد من حيث الاسم المطلق، فتقول: رحمة الله ورحمة زيد.

فلفظ الرحمة لفظ مشترك مطلق، وإذا أضيف وخصص فلكل موصوف ما يناسبه، كما يقال: ماء ثم يقال: ماء الدنيا وماء الآخرة.

فلكل ما يليق به، وكذلك خمر الدنيا وخمر الآخرة.

فلكل ما يليق به.

وترى أن خمر الآخرة يمتنع ببداهة العقول وضرورة العقول أن تكون كخمر الدنيا، مع أن هناك نسبة -في الجملة- مشتركة يفهم بها الخطاب؛ ولهذا يمتنع أن يكون نعيم الآخرة مع نعيم الدنيا أو مع المواد التي في الدنيا مقروناً بالاشتراك اللفظي.

<<  <  ج: ص:  >  >>