وهناك غرض آخر جعل المصنف يقرر مسألة العلو، وهو أن قدماء الأشاعرة كـ أبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا يثبتون علو الله سبحانه، وإن كانوا يتأولون مسألة الاستواء على العرش، وهذا قول أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، وقبل هؤلاء هو قول أئمة الكلابية الأولى، وأخصهم عبد الله بن سعيد بن كلاب.
لكن لما جاء المتأخرون من الأشاعرة كـ أبي المعالي ومن بعده نفوا مسألة العلو واستعملوا فيها نفس منهج المعتزلة؛ ولما جاء المتأخرون بعد هذا كـ محمد بن عمر الرازي زاد الأمر سوءاً فقال: إن الذين يثبتون الجهة -يقصد: العلو- هم من طوائف الأمة الحنابلة والكرامية، وإلا فإن سائر الأمة اتفقت على تنزيه الله عن الجهة وقد شاع هذا عند متأخري الأشاعرة؛ ولهذا بدأ يوصف الحنابلة -قبل زمن شيخ الإسلام، وأدرك رحمه الله هذا- أنهم مثبتة للجهة، بل أصبح هذا الوصف مختصاً بهم؛ لأنه لم يكن للكرامية ظهور يذكر خاصة في بلاد العراق وبلاد الشام، وإن كان لهم بعض الظهور في بلاد العجم.
فعني شيخ الإسلام في كتبه ببيان أن أبا الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا مثبتةً للعلو، فضلاً عن إثبات سائر أئمة السنة والجماعة، أي: يقصد أنه حتى أئمة الأشاعرة كانوا مثبتةً لمسألة العلو، ولهذا المصنف عني ببيان هذه المسألة، وأنها مسألة فطرية عقلية شرعية؛ ولهذا استدل بعد ذلك بشعر أمية بن أبي الصلت مع أنه رجل لم يسلم، وإن كان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يؤمن به، وقد كان متحنفاً، وله إصابة في التوحيد مجملة لكنه لم يدخل في دين الإسلام ..
فلهذين الغرضين عني المصنف بهم.
إذاً المقصد الثاني، وهو ذكر مسألة العلو لغرضين:
الأول: لأنها مسألة أصل عند السلف وعند الطوائف، فالتحقيق فيها يتحصل به تحقيق في جمهور الصفات.
الثاني: لأن متأخري الأشاعرة نفوها وقدماءهم كانوا يثبتونها، وزعم بعض متأخريهم -أعني الأشعرية- أن إثباتها مختص بالحنبلية والكرامية.