للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المقصد الرابع: بيان صلة نفاة متكلمة الصفاتية بمتكلمة الجهمية والمعتزلة الأوائل]

المقصد الرابع: وهو صلة نفاة متكلمة الصفاتية بمتكلمة الجهمية والمعتزلة الأوائل الذين ذمهم السلف.

الإشكال في باب الأسماء والصفات لم يقع كثيراً بقول المعتزلة والجهمية وإن كانوا هم الأصل في هذا الباب؛ لأن قول المعتزلة -وبخاصة أئمة المعتزلة- وقول الجهمية قد علم تميزه عن قول أهل السنة والجماعة، وحصل بين أئمة السلف وبين أئمة الجهمية والمعتزلة ما هو معروف من الرد والاختلاف والتمايز، ولم ينتسب أئمة الجهمية والمعتزلة لأهل السنة أو شيء من طرقهم، فهم مباينون للسلف في الانتماء وفي الحقيقة العلمية، ومن هنا لا يكون في قولهم ذاك الإشكال الكثير.

لكن لما جاء متكلمة الصفاتية ممن اشتغلوا بشيء من النفي -وأخصهم ثلاث طوائف: الكلابية، والأشعرية، والماتريدية- اتفقوا على ذم المعتزلة والجهمية، حتى إن أكثر ما تراه في كتب الماتريدية والأشاعرة وما نقل عن كتب الكلابية -بل ما في كتب بعض الكلابية كـ الحارث بن أسد المحاسبي - في الغالب أنه ردود مفصلة على المعتزلة.

كذلك انتسب متكلمة الصفاتية -في الجملة- لأهل السنة، وهم -في الجملة- يثبتون أصول الصفات -وإن كانوا يختلفون في القدر الذي يثبتونه- والغالب عليهم الانتساب لأحد الأئمة الأربعة في الفقه، وكثير من أئمتهم يعظمون مذهب السلف تعظيماً صريحاً كما هي حال الأشعري وأمثاله ..

فلهذه الأسباب ولغيرها أيضاً وقع اشتباه كثير في هذه المذاهب المتأخرة، فتأثر بها طوائف من الفقهاء وبعض الصوفية، بل وشاعت في المتكلمين الذين ينتسبون للسنة والجماعة، والذين يفرضون أنهم مفارقون مباينون لطريقة المعتزلة.

وقد عني المصنف كثيراً بالتحقيق في هذا المقصد والتوسط فيه والعدل؛ فقال رحمه الله: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي يذكرها أبو بكر بن فورك وأمثاله هي بعينها تأويلات بشر المريسي الذي ذمه السلف ..

إلخ.

بمعنى أن هؤلاء الطوائف الثلاث ومن وافقهم، وإن كانوا قد خالفوا المعتزلة مخالفة حقيقية في بعض المسائل إلا أنهم فيما نفوه وتأولوه قد أخذوه عن الجهمية والمعتزلة، بمعنى أنه ليس في نفس الأمر في هذا الباب إلا أحد ثلاثة مذاهب، وهي المذاهب التاريخية الأولى: إما مذهب أهل السنة، أو مذهب المعطلة النفاة الجهمية والمعتزلة، أو مذهب المشبهة ..

هذه هي المذاهب المعتبرة في هذا الباب من حيث الحقيقة العلمية ومن حيث الحقيقة التاريخية، أما من حيث الحقيقة العلمية فإن الحقيقة العلمية لا تخرج عن هذه الفروضات الثلاث: التشبيه، أو النفي الصريح، أو الإثبات مع التنزيه عن التشبيه كما هي طريقة أهل السنة.

وأما الواقع التاريخي الأول فإنه في التاريخ الأول كان الأصل زمن الصحابة إلى آخر زمن التابعين هو قول أهل السنة والجماعة، ثم ظهرت مقالة التعطيل، ثم ظهرت مقالة التشبيه.

واستقر الأمر على هذه المقالات الثلاث، حتى جاء متكلمة الصفاتية ومال بعضهم كـ محمد بن كرام السجستاني إلى طريقة التشبيه، ومال جمهورهم إلى شيء من الجمع بين طريقة أهل السنة المحضة وبين طريقة التعطيل؛ ولهذا أثبت الأشعرية بعض الصفات ونفوا البعض الآخر؛ ولهذا يكونون فيما نفوه أو تأولوه فرعاً عن المعتزلة والجهمية؛ ولهذا لا يذم الأشاعرة المعتزلة فيما يتفقون معهم على نفيه، إنما فيما تثبته الأشاعرة، فيصير المذهب الأشعري وأمثاله ملفقاً من قول أهل السنة وقول المعتزلة.

وهذا الوصل موضع هام عند المصنف وهو يقع في قوله: وهذه التأويلات ..

إلخ.

وقيمة هذا الوصل: أنه كما أن السلف اتفقوا على ذم الجهمية والمعتزلة -بل حتى الأشاعرة يذمون المعتزلة والجهمية- كذلك الأشاعرة بسبب هذه الصلة مستحقون لنفس هذا الذم في الجملة.

<<  <  ج: ص:  >  >>