للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قول بعض من نسبوا إلى التصوف في إثبات صفات الله عز وجل]

[وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية في عقيدة له قال في أولها: طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة; قال فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها; ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه: لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه.

وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه محجة الواثقين ومدرجة الوامقين تأليفه: وأجمعوا أن الله فوق سمواته عال على عرشه مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية إنه بكل مكان; خلافا لما نزل في كتابه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] له العرش المستوي عليه والكرسي الذي وسع السموات والأرض وهو قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:٢٥٥] وكرسيه جسم والأرضون السبع والسموات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة; وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية; بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه; كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأنه - تعالى وتقدس- يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفا صفا; كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:٢٢] وزاد النبي صلى الله عليه وسلم: وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين ويعذب من يشاء.

كما قال تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:١٢٩].

وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني -شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده- قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة; وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول.

وأنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون; بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة; لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق.

وإن الله عز وجل سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء: فيقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر) ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل.

فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وسائر الصفوة من العارفين على هذا.

اهـ.

وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب السنة ثنا أبو بكر الأثرم ثنا إبراهيم بن الحارث يعني العبادي حدثنا الليث بن يحيى قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث -قال أبو بكر: هو صاحب الفضيل - قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؟ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:١ - ٤] فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه.

وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع; كما يشاء أن ينزل وكما يشاء أن يباهي وكما يشاء أن يضحك وكما يشاء أن يطلع.

فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟.

فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه.

فقل: بل أومن برب يفعل ما يشاء.

ونقل هذا عن الفضيل جماعة منهم البخاري في أفعال العباد.

ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه الفاروق فقال: ثنا يحيى بن عمار ثنا أبي ثنا يوسف بن يعقوب ثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل.

وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه التعرف بأحوال العباد والمتعبدين قال: باب ما يجيء به الشيطان للتائبين وذكر أنه يوقعهم في القنوط ثم في الغرور وطول الأمل ثم في التوحيد.

فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه أو بالجحد لها والتعطيل.

فقال بعد ذكر حديث الوسوسة:- واعلم رحمك الله أن كل ما توهمه قلبك أو سنح في مجاري فكرك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء أو ضياء أو إشراق أو جمال أو سنح مسائل أو شخص متمثل: فالله تعالى بغير ذلك; بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر ألا تسمع لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:٤] أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل أولم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته؟ وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك: كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك.

فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفؤ.

فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب -تعالى وتقدس- في كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال لك: إذا كان موصوفا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه; لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى.

واعلم -رحمك الله تعالى- أن الله تعالى واحد لا كالآحاد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد -إلى أن قال- خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق لم يستحدث تعالى صفة كان منها خليا واسما كان منه بريا تبارك وتعالى; فكان هاديا سيهدي وخالقا سيخلق ورازقا سيرزق وغافرا سيغفر وفاعلا سيفعل ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل فهو يسمى به في جملة فعله.

كذلك قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:٢٢] بمعنى أنه سيجيء; فلم يستحدث الاسم بالمجيء وتخلف الفعل لوقت المجيء فهو جاء سيجيء ويكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه لأن ذلك فعل الربوبية فيستحسر العقل وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود فلا تذهب في أحد الجانبين; لا معطلا ولا مشبها وارض لله بما رضي به لنفسه وقف عند خبره لنفسه مسلما مستسلما مصدقا; بلا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير.

إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: أنا الله لا الشجرة الجائي قبل أن يكون جائياً; لا أمره المتجلي لأوليائه في المعاد; فتبيض به وجوههم وتفلج به على الجاحدين حجتهم المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان -تبارك وتعالى- الذي كلم موسى تكليما.

وأراه من آياته فسمع موسى كلام الله؟ لأنه قربه نجيا.

تقدس أن يكون كلامه مخلوقا أو محدثا أو مربوبا الوارث بخلقه لخلقه السميع لأصواتهم الناظر بعينه إلى أجسامهم يداه مبسوطتان وهما غير نعمته خلق آدم ونفخ فيه من روحه -وهو أمره- تعالى وتقدس أن يحل بجسم أو يمازج بجسم أو يلاصق به تعالى عن ذلك علواً كبيراً الشائي له المشيئة العالم له العلم الباسط يديه بالرحمة النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة وليرغبوا إليه بالوسيلة القريب في قربه من حبل الوريد البعيد في علوه من كل مكان بعيد ولا يشبه بالناس.

إلى أن قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] القائل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:١٦ - ١٧] تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء جل عن ذلك علواً كبيراً اهـ].

هذه النقولات عن الصوفية، وإن كان في بعض الأحرف كلام لا يوافقون عليه على التمام والتفصيل، لكن غرض المصنف بها: أن يبين أن هذا الإثبات الذي ذكره في رسالته وفي كتبه مفصلاً هو مذهب معروف حتى عند المتصوفة.

والإشكال في الصوفية أنهم طوائف متباينة تماماً، فمن الصوفية من أضيفوا إلى التصوف، وهم أئمة معتبرون من كبار أهل السنة والجماعة، كـ الفضيل بن عياض وأمثاله، فإن هذا وإن لم يسم نفسه صوفياً إلا أن جمهور كتب الصوفية يضيفونه إليهم.

وصنف آخر من الصوفية: وهو من وقع في بدع عملية، أي: قد يكون عنده زيادة في التعبد أو بعض التكلف أو ما يشاكل ذلك، ولكنه من حيث الأصول -أصول الديانة- مستقر على قول أهل السنة والجماعة.

وطائفة من الصوفية: يميلون إلى الطرق الكلامية ويركبون عليها الطرق الصوفية كما هي حال القشيري صاحب الرسالة.

وطائفة من الصوفية: ينتحلون الطريقة الكلامية والطريقة الصوفية، ويرون الفرق بينهما، لكنهم يجعلون هذا خطاباً وهذا خطاباً، كما هي الطريقة التي انتهى إليها أبو حامد الغزالي صاحب الإحياء، فإنه انتهى إلى طريقتين، بل إلى ثلاث طرق كما ذكر ذلك في كتابه ميزان العمل، فهو يمتدح طريقة المتكلمين باعتبار أنها طريقة جدلية ينازل بها الخصوم؛ ولهذا استعملها في رده على المتفلسفة، ولكنه من حيث التحقيق والمعرفة واليقين كما يقول: فإن اليقين هنا يقع في طريقة الصوفية ..

.

وطائفة من الصوفية: الصوفية المتفلسفة الذين وقعوا فيما يقارب الطرق الإلحادية، بل في مقالات إلحادية محضة من مقالات الزنادقة من الفلاسفة وغيرهم، كما هي طريقة ابن عربي وابن سبعين والتلمساني

<<  <  ج: ص:  >  >>