[التفويض ليس هو مذهب السلف]
[ومن قال: إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى].
قوله: فقد أصاب في المعنى لأن هذه المعاني تشبيه، فأصاب في المعنى من هذا الوجه.
[لكن أخطأ القول بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس، فيكون القائل لذلك مصيباً بهذا الاعتبار، معذوراً في هذا الإطلاق.
فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية، وكان أحسن من هذا: أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر؛ حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظاً ومعنى.
وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: الظاهر غير مراد عندهم.
أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، ولا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازاً ذهنياً، أو جوازاً خارجياً غير مراد ..
فهذا قد أخطأ في ما نقله عن السلف أو تعمد الكذب؛ فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل -لا نصاً ولا ظاهراً- أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة.
وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف.
بمعنى: أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره].
هذا القول في التحصيل لمذهب السلف، والفرق بينهم وبين المخالفين لهم: لا شك أنه تحصيل باطل، وإن كان قد شاع عند طائفة من متكلمة الصفاتية.
أما أئمة الجهمية والمعتزلة: فإنهم كانوا يعلمون أن الفرق بينهم وبين السلف ليس من جهة تعيين التأويل، بل من جهة إثبات الصفات أو عدم إثباتها؛ ولهذا قد يقال: إن المعتزلة من هذا الوجه أعلم بحال مذهب السلف من كثير من متأخري المتكلمين من الأشاعرة ونحوهم، من جهة أن المعتزلة يدرون أن الخلاف بينهم وبين السلف متحقق في إثبات الصفات أو عدم إثباتها، لا في مسألة تعيين التأويل؛ ولهذا كان المعتزلة الذين أدركوا زمن السلف يصفون مذهب السلف بالتشبيه والتجسيم وأمثال ذلك؛ مما يدل على أنهم يعلمون أن السلف كانوا مثبتةً في نفس الأمر للصفات.
وكلام السلف في إثبات الصفات متواتر في كتب السنة وغيرها، بل نص عليه حتى أرباب الكلام من المعتزلة وغيرهم: أن مذهب أهل السنة والحديث إذ ذاك كان على الإثبات.
ومن هنا كان هذا التحصيل تحصيلاً باطلاً، وإن كان صاحبه قصد فيه التقريب بين طريقته التي أضافها إلى السنة والجماعة -كما هو حال جمهور الأشاعرة الذين ينتسبون إلى السنة والجماعة- وبين طريقة السلف الأوائل، فإنه من المعلوم أن السلف الأول رحمهم الله من أئمة السنة والحديث عند سائر أجناس الطوائف أنهم ليسوا من أهل التأويل.
وإن كان بعض المتكلمين قد أضاف بعض أعيان السلف إلى التأويل، لكن من حيث جملة السلف فإنه متفق عليه بين جميع الطوائف أن السلف لم يشتغلوا به كمذهب يطرد لهم.
فلما كان متحققاً أن السلف ليسوا من أهل التأويل صار القول على طريقتين:
الأولى: طريقة قدماء المتكلمين، وهي أن السلف مثبتة للصفات، وأن النزاع بينهم وبين مخالفيهم في إثبات الصفات أو عدمه.
الثانية: طريقة كثير من متكلمة الصفاتية، بل عليها جمهورهم، وهي أن السلف لا يثبتون الصفات في نفس الأمر، وإذا قلنا: لا يثبتون الصفات ..
فالمقصود: الصفات التي ينفيها من ينفيها من متكلمة الصفاتية، أما الصفات التي يثبتها متكلمة الصفاتية فإنهم يقولون: إن السلف كانوا يثبتونها.
فهذا التحصيل وإن قصد به أصحابه التقريب بين طريقة السلف وطريقتهم، وفيه ميل إلى مذهب أهل السنة في الجملة إلا أنه يتضمن غلطاً على السلف في مذهبهم، وهو غلط متحقق من جهة أن السلف كانوا مثبتةً للصفات وليسوا مفوضة.
[وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف.
أما في كثير من الصفات فقطعاً مثل أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم -الذي لم يحك هنا عشره- عَلِم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك].
وهذا متحقق مطرد في مذهب السلف، وهو موجود في كتب السنة المسندة موصولاً بالأسانيد إلى أعيان أئمة السنة والحديث مع اختلاف أمصارهم وأعصارهم، كلهم يصرحون بإثبات صفات الله، ويردون على المعتزلة والجهمية نفاة الصفات، وهذا التواتر لا تختص به كتب السنة والحديث كما أشار إليها المصنف، بل ذكره حتى أئمة ومتكلمة الصفاتية في بعض الصفات كصفة العلو وأمثالها، فإن ابن كلاب -مثلاً- في كتاب الصفات استدل على ثبوت هذه الصفة بدلائل مفصلة من الكتاب والسنة والعقل والفطرة.