[أقوال الأئمة في صفات الله سبحانه]
قال المصنف رحمه الله: [ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من نقل مذهبهم].
المصنف يذكر من كلام السلف ومن أعيان السلف ما يبين أنهم برآء من الطرق الثلاث، أما براءتهم من طريقة التخييل الفلسفية فظاهر، ليس فيه إشكال، فإنه لم يتكلم أحد أن السلف كانوا من أهل التخييل، إلا ما وقع من أبي الوليد بن رشد الفيلسوف المتفقه على مذهب مالك؛ فإنه زعم أن بعض الصحابة كانوا يمتحلون هذه الطريقة، وتشبث ببعض الأحرف الثابتة عن بعض الصحابة كقول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وما جاء عن ابن مسعود أيضاً: إن أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان ببعض الفتنة.
وقد ذكر بعض الأفاضل أنها لا تصح، فزعم بهذا أن طريقته كانت معلومة عند بعض أئمة الصحابة.
وهذا سفه من أبي الوليد بن رشد لم يتقلده أحد من أصحابه ك ابن سينا وأمثاله الذين قرروا أن طريقتهم ليست مذكورةً في كتب الأنبياء وما نزل عليهم من الوحي.
والطريقة الثانية -وهي طريقة التأويل- في الجملة يعلم براءة السلف منها، إلا ما وقع عند بعض متكلمة الصفاتية ك الشهرستاني، حيث زعم أن بعض السلف كانوا يشتغلون بالتأويل، وما زعمه أبو محمد بن حزم من أن داود بن علي -الذي هو إمام الظاهرية- والشافعي كانوا يشتغلون بشيء من التأويل، وهذا غلط من ابن حزم؛ فإن الشافعي رحمه الله أظهر من أن يتكلم في براءته من هذا العلم -أعني: علم الكلام- أو في براءته من التأويل بعامة ولو بغير الطريقة الكلامية.
وأما داود بن علي رحمه الله فهو أيضاً بريء من طريقة ابن حزم الذي ذكرها في الفصل وغيره، فقد كان محل الخلاف بين داود بن علي وبين جمهور علماء عصره في الطريقة الظاهرية التي التزمها في الفقه، أما في أصول الدين فإنه على طريقة سائر أئمة السلف، وإن كان أخذ عليه بعض الأحرف اليسيرة التي هي من مقامات النزاع الكبار، كاشتغاله ببعض الجدل مع المخالفين في زمن كان الأئمة يفضلون فيه ترك الاستطراد، كما ذكر ذلك أبو حاتم.
وقد منعه الإمام أحمد رحمه الله من الدخول عليه بعد ذهابه إلى بلاد ما وراء النهر والرجوع منها؛ لأنه ذكر في تلك البلاد أن القرآن محدث، وقد كانت هذه اللفظة يستعملها إذ ذاك طائفة من الجهمية يقصدون بها أن القرآن مخلوق، وكان الإمام أحمد ينهى عنها، وكان داود يصححها لما جاء في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:٢] فأجاز هذا الإطلاق، وكان الإمام أحمد يمنعه إلا بسياق القرآن على التصريح، أي: تساق الآية على وجهها، ولا تذكر مستقلة.
فقد كان الإمام أحمد يدرأ شبه وتلبيس الجهمية، ولهذا عندما كُتب إليه رحمه الله وهو في بغداد أن داود بن علي أظهر هذه المقالة في تلك البلاد، ثم رجع داود وكان معه صحبة لـ صالح ابن الإمام أحمد، فقال له: تلطف على أبي عبد الله وقل: هذا داود يستأذنك ولا تسمني.
فدخل على أبيه وقال له، فقال: داود ابن من؟ فقال: هو ابن علي.
قال: من أصبهان؟ قال: نعم؟ قال: لا يدخل، فإنه حدثني فلان عن فلان أنه قال ذلك.
وأنكر ذلك داود وتلطف، فقال الإمام أحمد: إن من حدثني أوثق عندي منه.
فكان هذا من تعزير الإمام أحمد رحمه الله بمقامه في السنة وتأديبه لمن حوله حتى لا يقع الاختلاط في المعتقد، بمعنى الابتعاد عن الألفاظ التي صارت مجملةً بالاستعمال، وتركها إلى اللفظ الصريح.