للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من دلائل بطلان مذاهب المتكلمين رد كل طائفة منهم لمقالة الأخرى]

من الدلائل على بطلان مذاهب المخالفين: أن الطائفة الواحدة من المتكلمين تقع في إبطال مقالة الطائفة ودلائلها المقابلة لها، مع أن مذهبهم مبني على قاعدة واحدة، هي القاعدة الكلامية.

بمعنى أن الأشاعرة يحكمون على مذهب المعتزلة بالفساد، والمعتزلة يحكمون على مذهب الأشاعرة بالفساد، مع أن المادة الكلامية واحدة!

بل أخص من هذا أن البغداديين من المعتزلة يفارقون البصريين من المعتزلة في تقرير كثير من الدلائل والمسائل، وبين هذين الطائفتين تنازع كثير، ومن ذلك ما صنفه أبو رشيد النيسابوري في مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين من المعتزلة.

وكذلك نجد ما هو أخص من هذا: وهو أن أعيان أئمة البصريين من المعتزلة أو أعيان أئمة البغداديين من المعتزلة يقع التعارض بين الشيخ وتلميذه، فمثلاً: أبو الهذيل العلاف منظر مدرسة المعتزلة، كان من أصحابه أبو إسحاق النظام - إبراهيم بن سيار النظام - ومع ذلك وقع بين أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام نزاع شديد في طريقة تحصيل المذهب على طريقتين متناقضتين.

بل ما هو أخص من هذا، وهو: أنه في كلام الواحد من أعيان أئمة المتكلمين الكبار اضطراب كبير في كثير من المسائل، كما تقدم في حال أبي المعالي الجويني، فإنه يقرر في كتب مقامات ويقرر في بعض الكتب الأخرى ما يناقض هذه المقامات، وكما تقدم معنا في كلام أبي الحسن الأشعري أيضاً مع قربه من أهل السنة والجماعة، وكذلك ما يقع في كلام بعض أعيان المعتزلة ..

وهلم جرا.

وفي المتفلسفة الأمر أشد؛ ولهذا نجد أن أبا الوليد بن رشد يتناقض كثيراً، وكذلك ابن سينا في كتبه يتناقض كثيراً، فهو مرة يمتدح الطريقة العقلية ويصححها، ومرة يشير إلى الطعن عليها ويصحح طريقة التصوف والعرفان ..

وهلم جرا.

إذاً: الناظر في مقالات هؤلاء باعتبار طوائفهم أو باعتبار الطائفة الواحدة بين أصحابها، أو باعتبار الواحد منهم، يجد أن في كلامهم تناقضاً كثيراً، ولا شك أن التناقض دليل على الفساد، ولهذا كان من الدلائل على أن القرآن من عند الله أنه ليس فيه اختلاف: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:٨٢] ولا يرى شيء من ذلك فيما يتعلق بمذهب السلف.

وهنا تظهر النتيجة من هذا، وهو أنه ليس هناك طائفة من طوائف المخالفين للسلف إلا وبين أصحابها نزاع كثير في تقرير الدلائل والمسائل.

وهذا قدر واسع جداً، ولا يرى شيء من ذلك يقع في كلام أئمة السلف، فإنهم متفقون في الدلائل ومتفقون في المسائل، وإذا قيل: إنهم متفقون في الدلائل فهذا لا يعني أن كل دليل يستدل به إمام يلزم أن يكون هذا الدليل مستعملاً عند سائر الأئمة، ولكن الذي يلزم أنه ما من مسألة من مسائل أصول الدين إلا وفيها أدلة أجمع السلف على الاستدلال بها، ويكون ثبوت المسألة وتحققها بهذه الأدلة المجمع عليها.

وبعض الأئمة يجمعون مع الاستدلال بالنصوص الصريحة الاستدلال بشيء من الظواهر التي قد لا يسلم بها بعض الأئمة، فهذا الاختلاف ليس من باب الاختلاف في الدلائل عند السلف؛ لأن هذا الاختلاف إنما يكون اختلافاً من جنس اختلاف المتكلمين لو كانت المسائل لا تثبت إلا بهذه الأدلة التي يقع فيها شيء -أحياناً- من النزاع.

إذاً السلف مذهبهم مذهب متفق من جهة دلائله ومسائله، أما المخالفون فمذهبهم ليس متفقاً لا من جهة دلائله ولا من جهة مسائله؛ وبهذا يعلم أن دلائل المعتزلة التي يذكرها بعض أعيانهم يمكن أن يذكر الرد عليها من كلام بعض أعيان المعتزلة الآخرين، فضلاً عن كلام الأشاعرة على المعتزلة، فضلاً عن كلام السلف على المعتزلة.

وكذلك بعض كلام الأشاعرة يمكن رده بكلام بعض أعيانهم، وإن كان هذا المقام إذا ذكر لا يلزم بالضرورة أن يكون مطرداً، فإنك قد ترى بعض الأدلة التي تتفق عليها طائفة من الطوائف فتحصل بها مذهباً، وترى بعض المسائل تتفق عليها الطائفة وتحصل بهذه النتيجة اتفاقاً يضافون وينتسبون إليه، كالأصول الخمسة التي التزمها المعتزلة في الجملة، ولكن لهم في طرق تقريرها طرق مختلفة.

فالقصد: أن هذه الدلائل يدخلها التعارض كثيراً، وهذا هو مقصود المصنف رحمه الله من ذكر هذا المقام، وهو: تقرير أن المخالفين للسلف هم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك، أي: أنهم مختلفون فيما بينهم متناقضون في تقرير أقوالهم، وإن كانوا أحياناً يطلقون في كتبهم كثيراً من الإجماع، بل تجد بعضهم يقول: أجمع المسلمون على كذا.

ولا يكون هذا صحيحاً في نفس الأمر.

ومن الأمثلة على ذلك: أن الجويني كثيراً ما يقول في كتبه: والدليل على ذلك إجماع المسلمين.

مع أن القول الذي حكى فيه الإجماع ليس إجماعاً للمسلمين، بل ولا إجماعاً لأهل السنة والمنتسبين إليها، بل ولا إجماعاً للأشعرية وحدها.

ومن أمثلة نقله للإجماع قوله: أن وجوب النظر على المكلفين إجماع عند المسلمين.

مع أن هذا لم توجبه طائفة بعينها بإجماعها، حتى مَنْ هم أخص من تكلم بمسألة النظر وهم المعتزلة، وعن المعتزلة دخل القول بمسألة وجوب النظر على الأشاعرة، حتى قال أبو جعفر السمناني: القول في إيجاب النظر في مذهبنا -يعني مذهب الأشعرية- بقية بقيت فيه من مذهب المعتزلة.

فأصلاً القول بإيجاب النظر هو مبني على أصول القدرية نفاة القدر، ولهذا لا يمكن إثباته على أصول الكسبية الأشعرية مثبتة القدر الغالية في إثباته، ولكن حتى المعتزلة أصحاب النظر طائفة من أئمتهم لا يوجبونه، ويرون أن المعرفة تقع ضرورية، ومن هؤلاء الجاحظ الكاتب المعتزلي المعروف، وثمامة بن الأشرس، وأبو إسحاق البلخي وجماعة من أكابر علماء المعتزلة؛ والخلاف بين الأشعرية في عدم إيجاب النظر مشهور.

فالقصد: أن ما يقع في بعض كتب المتكلمين من دعوى الإجماع هذا لا يلتفت إليه، فإنهم من أجهل الناس بالإجماع.

<<  <  ج: ص:  >  >>