[القائلون بإجراء نصوص الصفات على ظواهرها]
[قسمان يقولان: تجرى على ظاهرها.
وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها.
وقسمان: يسكتون.
أما الأولون فقسمان:
أحدهما: من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين ..
فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليه يتوجه الرد بالحق].
مذهب التشبيه ليس قدره في الاشتباه والشيوع كمذهب التأويل، وأخص من تكلم بالتشبيه قوم من متقدمي الرافضة كـ هشام بن الحكم، وهشام بن سالم وأمثالهما، ثم رجع جمهور الرافضة عن هذا المذهب إلى ما يقارب مذهب المعتزلة، وتلقوا عنهم في هذا الباب، ثم وقع في التشبيه كثير من متأخري المتكلمين كـ محمد بن كرام السجستاني وأصحابه، ومذهب هؤلاء يقارب مذهب التشبيه الذي كان عليه هشام بن الحكم، وإن لم يكن مثله.
وقد وقع بعض الفقهاء من أصحاب الأئمة في زيادة في الإثبات، فهؤلاء ليسوا مشبهةً، ولكنهم ليسوا على طريقة أهل السنة والحديث المحضة، وهم خير من محمد بن كرام وأمثاله، كما أن محمد بن كرام وأمثاله من المجسمة أقرب إلى طريقة أهل السنة من طريقة أئمة المشبهة كـ هشام بن الحكم وأمثاله.
[الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حقه المخلوق إما جوهر محدث، وإما عرض قائم به.
فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علم وقدره، وكلاماً ومشيئة].
المقصود بأهل الإثبات هنا: أي من يثبت أصول الصفات وإن لم يلتزم إثبات سائر الصفات، وبهذا دخل فيه أهل السنة كما هو متحقق، ودخل فيه متكلمة الصفاتية كالأشعرية والكلابية والماتريدية وأمثالهم، أي: من يصحح مبدأ الإثبات مقابل من يلتزم تحقيق النفي كما هي طريقة الجهمية وأئمة المعتزلة.
[وإن لم يكن ذلك عرضا يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين].
الذي عليه أهل الإثبات من أهل السنة ومتكلمة الصفاتية: أن لله علماً وقدرةً وإرادةً، وهي ليست كصفات المخلوقين، فكذلك يقال: في الوجه واليدين، ليست هي أجساماً كصفات المخلوقين، أي: بجسميتها المخلوقة التي تليق بالمخلوق، وإن كان لفظ الجسم لا يطلق إثباتاً ولا نفياً في حق الله تعالى.
وهذا من باب الأصل المعروف: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، وهذا يتوجه به الرد على متكلمة الصفاتية الذين أثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها.
[وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح].
قوله: وعليه يدل كلام جمهورهم لا يعني أن طائفة من السلف تخالف هذا المذهب، بل مقصوده: أن التصريح شاع عند جمهورهم، وإن لم يلزم من ذلك أن كل تفصيل في الصفات صرح به كل معين من أعيانهم.
[فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات.
فمن قال: لا أعقل علماً ويداً إلا من جنس العلم واليد المعهودين.
قيل له: فكيف تعقل ذات من غير جنس ذوات المخلوقين؟! فمن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب -الذي ليس كمثله شيء- إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه.].
كل هذا الاستدلال من باب أن القول في الصفات كالقول في الذات وهذا يقع به الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة، بمعنى: أنهم كما أقروا بأن لله ذاتاً لا تشابه الذوات، أي: لها اختصاصها اللائق بها فكذلك صفاته تكون مناسبة لذاته.
[وما أحسن ما قال بعضهم إذا قال لك الجهمي: كيف استوى أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا، أو كيف يداه ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في ذاته؟ فإذا قال لك: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر.
فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك؟!].
إذاً: السؤال عن كيفية الصفات فرع عن العلم بحقيقة الذات، وإذا كان متحققاً بضرورة العقل والشرع أنه لم يقع لأحد من خلق الله أنه يحيط بالله علماً بكيفية صفاته وكيفية ذاته؛ فإن القول في كيفية الصفات هو قول في كيفية الذات؛ أي: أن القول في هذه الصفات فرع عن القول في الموصوف فيها.
[بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ليس في الدنيا من ما في الجنة إلا الأسماء، وقد أخبر الله تعالى أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإذا كان نعيم الجنة -وهو خلق من خلق الله- كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه وتعالى].
هذا من باب قياس الأولى، ووجهه هنا: أن الجنة فيها نعيم يتفق في بعض الموارد من حيث الاسم المطلق مع نعيم الدنيا، ويكون متواطئاً -ليس مشتركاً اشتراكاً لفظياً- من حيث المعنى الكلي، مع أن الحقيقة والماهية مختلفة، فإذا كان كذلك في هذا النعيم وهو مخلوق من مخلوقات الله؛ فبين الخالق والمخلوق من باب أولى، بمعنى: أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، فمن باب أولى بين صفات الله وصفات خلقه التي وقع فيها اشتراك في الاسم المطلق كالعلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب
وأمثال ذلك.
وهذا من أقوى الأوجه في الرد على المخالف الذي يزعم أن إثبات الصفات يستلزم أن تكون أعراضاً كالصفات القائمة بالمخلوقين أو نحو ذلك، وكل من التزم بأن الإثبات يدل على التشبيه لما يراه واقعاً في المخلوقين من الاتصاف بهذه الصفات أو ما هو منها قيل له: هذا لو كان صحيحاً للزم اطراده بين المخلوقات نفسها من باب أولى؛ فيكون نعيم الجنة مماثلاً في الماهية والحقيقة لنعيم الدنيا ..
وهو ليس كذلك بإجماع المسلمين.
[وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى مع أنا نقطع أن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة].
وهذا مثل آخر، وهو مثل عقلي تام، أي: تام الدلالة والتحقيق، من جهة أن الروح قد اتفق على وجودها بنو آدم.
وأيضاً: من البدهي أن لها صفات ولها اختصاصاً، ومع ذلك فإن كيفية هذه الروح وكيفية صفات هذه الروح لا نعلمها، وإذا كان هذا متحققاً في الروح -وهو: أنا نعلم وجودها، ونعلم أن لها من الصفات ما يناسبها، وما هو من صفات الروح تشترك من حيث الاسم المطلق مع ما هو من صفات الأجسام والأبدان؛ ومع ذلك لا نعلم كيفية الروح ولا كيفية صفاتها- فمن باب أولى أن يتعلق هذا بالخالق، فإن علمنا بصفات الروح لم يوجب أن نعلم كيفية هذه الصفات، كذلك -من باب أولى- علمنا بصفات الله سبحانه وتعالى لا يوجب علمنا بكيفيتها.
[لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول والاتصال بالبدن والانفصال عنه وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا يمكن أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافقوا النصوص، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ وأنى لهم بذلك؟!
ولا نقول: إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلاً، أو صفة من صفات البدن والحياة، وأنها مختلفة الأجساد، ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة كما يقول طوائف من أهل الكلام].
أي: أن الذين تكلموا في هذا الباب من النظار -نظار المتفلسفة والمتكلمة- في الجملة على طريقتين:
الأولى: وهي طريقة المتفلسفة، والذين اتخذوا في الروح مبدأ التجريد، أي: جعلوا وجودها وجوداً مجرداً عن التركيب، وهذا قول لا دليل عليه على أقل تقدير، فإن الله تعالى لما ذكر الروح قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥] فالقول في ماهية الروح لم يتكلم أئمة السلف رحمهم الله فيه، أما القول بإثبات وجودها، وأن لها صفات تناسبها ..
فهذا أمر متحقق مجمع عليه بين السلف.
الثانية: وهي طريقة المتكلمين، فقد جعلوها جزءاً جسمانياً له صفات الأجسام وحقائق الأجسام ولوازم الأجسام، وهذا أيضاً قول لا دليل عليه.
إذاً: من حيث الأصل كلا القولين -أعني قول المتفلسفة بالتجريد، أو قول المتكلمة بالجسمانية- أقل ما يقال فيهما: أنهما قولان لا دليل عليهما؛ فإن إدراك ثبوت الوجود وإدراك ثبوت الصفات لا يستلزم إدراك ثبوت الماهية والكيفية، فإن الماهية لا تدرك إلا بالمشاهدة أو بالقياس، والمشاهدة للروح لم تقع، والقياس لم يقع؛ لأنه لم يوجد في الواقع إلا الأجسام، والأجسام لا تناسب القياس على الروح.
ومن هنا صار هذا القول من القول بغير علم، ومن هنا لا ينبغي الاشتغال بتفصيل مسألة الروح وماهيتها، بل يتوقف كما هو أدب القرآن: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥].
وهنا ينبه إلى أن بعض المتكلمين الأشاعرة وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة الذين تكلموا في مسألة الروح -عند تفسير القرآن، أو عند تفسير بعض النصوص النبوية التي ذكرت الروح- أن الوهم يقع لكثير منهم في مقابل قول المتفلسفة، فتراهم يقولون: وذهبت المتفلسفة إلى القول بتجريدها عن الصفات، وأنها وجود مطلق مجرد عن الصفات الثبوتية.
بل إن بعض المتكلمين المنتسبين للسنة والجماعة وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة ال