[الرد إلى غير الكتاب والسنة يوجب الاختلاف]
[ومضمونه: أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين، وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة].
وإن كان هذا الرد أي: الرد إلى غير الكتاب والسنة، إما إلى العقل أو المقالات الفلسفية أو غيرها؛ الرد إلى هذه الأمور لا يزيد الأمر إلا شدة؛ لأنه يوجب كثرة الاختلاف، ولهذا لما استعمل هؤلاء هذه الدلائل كثر اختلافهم وافترقت طوائفهم افتراقاً مشهوراً.
[ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم، وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:٦٠ - ٦٢] فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية.
ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تقلدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم].
قوله: إنما تقلدوا أكثرها لأنه قد يقع لهم دلائل يحصلونها بنظم عقلي مقرر ليس مولداً من مقالات فلسفية، لكن الدلائل التي هي أصول في هذه المذاهب لابد أن تكون فيها مادة فلسفية، وهذا قد تقدم الإشارة إليه.
[مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم لتشابه قلوبهم، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥] {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} [البقرة:٢١٣] الآية، ولازم هذه المقالة: ألا يكون الكتاب هدى].
لازم هذه المقالة أي: مقالة التعطيل، سواء كان تعطيلاً لسائر الصفات أو لما هو منها.
[ألا يكون الكتاب هدى للناس ولا بياناً ولا شفاء لما في الصدور، ولا نوراً ولا مرداً عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون أنه الحق الذي يجب اعتقاده؛ لم يدل عليه الكتاب والسنة، لا نصاً ولا ظاهراً].
وأهل الكلام يسلمون بأن القرآن لم يدل على ما فصلوه في مذهبهم في صفات الله، وإنما غاية الذي يستدل منهم بالقرآن إنما يستدل بنصوص مجملة على ما نفاه مما خالف فيه القرآن.
[وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:٤].
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:٦٥] وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش، ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:٦٥] لقد أبعد النجعة؟].
هذا لو لم يرد دليل الإثبات في الاستواء، لما كان هذا بياناً ظاهراً، كيف ودليل الاستواء متواتر في القرآن؟!
[وهو إما ملغز وإما مدلس لم يخاطبهم بلسان عربي مبين، ولازم هذه المقالة: أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد].
لأن الرد هنا اعتبر بالدليل العقلي، والعقل موجود قبل الرسالة وبعدها، بل الرسالة على هذه المذاهب الكلامية زادت الأمر إشكالاً؛ لأن الرسالة خاطبت المخاطبين في نصوصها القرآنية والنبوية بما يعارض الدليل العقلي الذي هو حق في ظن هؤلاء.
[وإنما الرسالة زادتهم عمىً وضلالاً، يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول يوماً من الدهر].
أي: كيف وسع النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقل يوماً من الدهر، ولم يفصح يوماً من الدهر بنفي صفة من هذه الصفات المثبتة في القرآن؟
كيف وسع النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يذكر يوماً واحداً أن في القرآن ما يحتاج إلى تأويل أو أن هذا القرآن ليس على ظاهره؟
هل يعقل أن كل من يسمع القرآن في زمنه صلى الله عليه وسلم كانوا يفقهون أنه مؤول؟
وإذا ورد هذا السؤال على المخالفين من المعتزلة والأشاعرة فإن الفاضل منهم يقول: إن القوم زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة كانوا يعلمون أن هذه النصوص ليست على ظاهرها، وإنما احتاج التصريح بتأويلها فيما بعد لما ظن من ظن من المشبهة أنها على ظاهرها ..
وهذا تكلف؛ لأنه لو كان ظاهرها يدل على التشبيه -مع أنه لا يدل عليه- هل يعقل أن كل من في زمن النبوة حتى حدثاء العهد بإسلام وحتى الأعراب، بل وحتى الكفار الذين يسمعون القرآن لا يتبادر إلى ذهن واحد منهم أن في القرآن ما هو من التشبيه؟ ثم يأتي من بعدهم من أئمة العلم الذين تحقق لهم العلم كأئمة السنة والجماعة فلا يفهمون منها إلا التشبيه ويجمعون عليه ويطبقون عليه، وهم لم يأخذوا إلا من مشكاة الصحابة رضي الله عنهم؟؟ لا شك أن هذا ممتنع بالعقل امتناعاً صريحاً.
[ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم أو اعتقدوا كذا وكذا؛ فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاقبلوه، وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه].
وهذا وجه آخر من استدلال المصنف رحمه الله على صحة مذهب السلف.
[ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله) وروي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
حديث الافتراق هذا مخرج في السنن والمساند وغيرها من حديث أنس وعبد الله بن عمر وأبي هريرة، وقد تكلم فيه بعض الحفاظ، والأكثر على تقويته، وكما تقدم أنه إن قيل بضعفه فإن هذا لا يعني شيئاً كثيراً؛ لأنه تواتر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، فهذا دليل على ثبوت هذا الافتراق، وأن قوماً يختصون بالحق الذي بعث به.
[فهلا قال: من تمسك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقادات فهو ضال.
وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة في هذه المقالة، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين].