لما انتهى المصنف رحمه الله من بيان المقدمة الثانية قصد الوصول إلى مقدمة هي محتدم النزاع مع الأشاعرة، فإن المقدمة الأولى وهي: أن إسناد السلف ينتهي إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام -في الجملة- هي مقدمة مسلمة عند الأشعرية، وكذلك المقدمة الثانية؛ فإن الأشعرية يختلفون كثيراً مع المعتزلة فضلاً عن الجهمية؛ ولهذا نجد أن جمهور الرد المفصل في كتب الأشاعرة يقع على طائفة المعتزلة.
لذلك قصد المصنف في المقدمة الثالثة بيان اتصال مذهب المتأخرين من المتكلمين سواء كانوا من الكلابية أو الأشعرية أو الماتريدية أو بعض متأخري المعتزلة المعتبرين في الحنفية كفقهاء، ومن تأثر بهذه المذاهب الكلامية المتأخرة من فقهاء المذاهب الأربعة بلا استثناء حتى الحنابلة؛ فإن طائفةً منهم تأثروا ببعض مقالات الكلابية والأشعرية -بيان الاتصال بين مقالات التأويل المتقدمة التي أجمع السلف، بل وحتى الأشاعرة، على ذم أصحابها، وهي: مقالات المعتزلة الأولى ومقالات الجهمية الأولى، وبين ما استعمله الأشعرية من التأويل؛ وأنه متلقى عن هؤلاء الذين اشتغل الأشعرية موافقةً للسلف في ذمهم، فقال مبيناً ذلك رحمه الله: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس -مثل أكثر التأويلات التي يذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات ... - هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي.
فهذا المحل من كلام المصنف هو وصل للمذهب المتأخر عند المتكلمين سواء كان أشعرياً أو كلابياً أو ماتريدياً، أو كان ينتسب إلى أحد المدارس الفقهية الأربعة، وحينما نقول: أو كان ينتسب إلى أحد المدارس الفقهية الأربعة فإننا نبين هنا حقائق علمية، وأما هؤلاء الذين غلطوا في هذا الباب من الفقهاء فهؤلاء اجتهدوا، وهذا هو محصل الاجتهاد، ويبقى أن هذا الاجتهاد ما قدره من جهة المخالفة؟ هذه مسألة فيها تفصيل، وإن كنا نعتبر أن هذا الاجتهاد ليست درجته بالقطع كالاجتهاد في المسائل الفقهية، لكن يبقى المقصود المجمل: أن حكم المقالة ليس بالضرورة أنه يطرد إلى قائلها.
فيقال: إن المتأخرين من المتكلمين بل وبعض الفقهاء نسبوا إلى بعض أئمة السلف أقوالاً ليست على مذهبهم، كـ أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي -مثلاً-، فإنه حنبلي لم يشتغل بعلم الكلام، وليس له صنعة كلامية فضلاً عن كونه ينتسب إلى مذهب كلامي كالأشعرية أو الاعتزال أو الماتريدية أو غيرها، ولكن ابن الجوزي الحنبلي قصد في كتبه -سواء في التفسير أو فيما صنفه في الاعتقاد- مذهباً يقارب مذهب كثير من المعتزلة، ومال إلى تعطيل كثير من الصفات، وإن كان في قوله بعض التردد والاضطراب كغيره من الفقهاء الذين كانوا يظنون أن هذا المذهب هو مذهب الأئمة؛ ولهذا لما رد ابن الجوزي على بعض الحنابلة لم يقصد كبار الحنابلة، فضلاً عن الإمام أحمد، بل قصد طائفةً من الحنابلة الذين قد يقع لهم بعض الزيادة في الإثبات.
وهذا معنىً يلاحظ بالمقابل: وهو أن المتأخرين لما خلط كثير منهم مذهب السلف بمذاهب متلقاة عن بعض قدماء المتكلمين -الذين عرف انحرافهم عن مذهب السلف- قابلهم طائفة أخرى من الفقهاء، وهذا إذا اعتبرنا المقارنة بالمذاهب الأربعة تجده أكثر ما يكون في فقهاء الحنابلة، بمعنى أكثر من غيرهم من المذاهب الثلاثة؛ فصار طائفة من الحنابلة كـ أبي عبد الله بن حامد وغيره يزيدون في الإثبات أكثر مما أثر عن أئمة السلف، ويقصدون بهذا مقابلة من غلط من أصحابهم الحنابلة الذين مالوا إلى مذهب التعطيل، وشاركوا بعض نفاة الصفات في بعض المسائل.
وبهذا يتبين أن الفقهاء رحمهم الله لم يكونوا على درجة واحدة في هذا الباب، فمنهم من قد زاد في الإثبات، وهذا يسير في الجملة، ويقع كثيراً في الحنابلة، ومنهم من قارب مذهب الكلابية أو الأشعرية، ومنهم من حقق مذهب الأئمة المعتبر الذي هو مذهب السلف، وهذا ليس مختصاً بطائفة، بل يقع في سائر الطوائف الأربع؛ فإن طوائف من فقهاء الحنبلية والشافعية والمالكية والحنفية محققون لمذهب السلف في باب الأسماء والصفات وغيره مما تحصل تحقيقه وتقريره.