للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعلم أن للإنسان ثلاثة أحوال: حين يكون في بطن أمه، فإذا جاءت الولادة انتقل إلى عالم لم يأنس به ولم يعلم ما فيه، فيستوحش لفقد مكانه، ثم يبقى في الأرض مدة عمره، ثم يموت فينقل إلى عالم البرزخ، وفيه ما لا يعرفه فيستوحش، ثم يجيء البعث فيرى عالما عظيما وخطوبا جسيمة فيستوحش، فسلم الله على يحيى وعيسى في هذه الأحوال التي يستوحش المرء فيها، فقال: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}.

قوله - تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} بدل اشتمال من مريم، أي: واذكر مريم زمن انتباذها (١١٢ /أ) والاشتمال تارة من المشتمل على ما اشتمل عليه كقوله - تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ} (١) والشهر مشتمل على القتال، ويأتي بالعكس؛ لأن زمن انتباذها مشتمل عليها.

{مَكاناً شَرْقِيًّا} أي: شرقي بيت المقدس، أو شرقي منزلها، وإنما انتبذت لتفلي رأسها، وقيل: لتغتسل من الحيض.

{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)}

{فَاتَّخَذَتْ} حجابا يسترها عن أعين الناظرين. {رُوحَنا} جبريل، وسمي روحا لنزوله بالروح الذي هو القرآن {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا} (٢) {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} (٣). وقيل: جبريل يسمّى روحا؛ لقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (٤) وقيل: {رُوحَنا} إكرام وتشريف؛ كما تقول لمن تحبه: أنت روحي.

{سَوِيًّا} أي: تام الأعضاء. وقيل: تام الجمال والحسن. تمثل لها في صورة شابّ أمرد جميل الصورة، فاستعاذت بالله منه، وهذا في غاية الخشية من الله، أن تظفر شابّة بشابّ تامّ الخلقة فتلتجئ إلى الله في كفّ شره. قوله: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} إن كنت ممن تنفع فيه الاستعاذة


(١) سورة البقرة، الآية (٢١٧).
(٢) سورة الشورى، الآية (٥٢).
(٣) سورة النحل، الآية (٢).
(٤) سورة النحل، الآية (١٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>