للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بعد (١)؛ لأنها فصلت ما بعدها عما قبلها. ويجوز أن يراد ب‍ {وَفَصْلَ الْخِطابِ} الذي ليس بطويل ممل، ولا قصير مخل. كان أهل زمان داود يسأل بعضهم بعضا أن ينزل عن امرأته ليتزوجها إذا أعجبته، وكان لهم عادة في المواساة بذلك؛ فوقعت عين داود على امرأة رجل يقال له أوريا؛ فسأله النزول عنها، فاستحيا أن يرده، ففعل ذلك؛ فتزوجها وهي أم سليمان؛ فضرب له المثل بما في الكتاب العزيز. وقيل: خطبها أوريا فأجابوه، ثم خطبها داود فاستحيا وليها فزوجها من داود عليه السلام؛ فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه (٢). وقيل: إن داود كان يغلق عليه قصره ويتعبد المدد؛ فأغلق بابه عليه مرة فتسلق شخصان يريدان قتل داود عليه السلام فأحس بهما، وكان شديد القوة يقدر عليهما فتمحلا كذبة، وقالا: نحن خصمان بغى بعضنا على بعض؛ فعلم أنهما تحيلا بدعوى المحاكمة؛ فأراد قتلهما، ثم قال: لا أقتلهما بالظن؛ فاستغفر ربه مما هم به من ذلك. وإذا تأملت القرآن العظيم وجدته يدل على هذا القول الأخير من وجوه كثيرة تقارب ثلاثين دليلا: أولها: قوله: {اِصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ} ولا يقال: اصبر واذكر داود الذي أحب امرأة فسعى حتى حصلت له، بل معناه: اصبر كما صبر داود على الشلحين (٣) ولم يأمر بقتلهما، وكذلك قوله: {ذَا الْأَيْدِ،} أي: القوة، والقوة تعم قوة الدين، وقوة البدن، ومن عنده مسكة من دين لا يفعل مثل ذلك، ومنها قوله: {إِنّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ} ومثل هذا المذكور في صفاته وما وهبه الله عز وجل من الكرامات أمر عظيم لا يقرن بالذم؛ فإنك لو قلت: زيد عالم خيّر مخصوص بالكرامات العظيمة أحب امرأة فسعى في فراقها من زوجها حتى تزوجها لم يكن كلاما متناسبا.

{وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا}


(١) رواه الطبري في تفسيره (٢٣/ ١٤٠)، ونسبه السيوطي في الدر المنثور (٧/ ١٥٤ - ١٥٥) لابن أبي حاتم والديلمي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ولسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الشعبي رضي الله عنه أنه سمع زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه.
(٢) ذكر ذلك الزمخشري في الكشاف (٤/ ٨٠ - ٨١)
(٣) قال ابن الأعرابي: الشلح السيوف الحداد. قال الأزهري: ما أرى الشلحاء والشلح عربية صحيحة وكذلك التشليح الذي يتكلم به أهل السواد سمعتهم يقولون شلح فلان إذا خرج عليه قطاع الطريق فسلبوه ثيابه وعروه. ينظر: لسان العرب (شلح).

<<  <  ج: ص:  >  >>