للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يخلف بعضهم بعضا؛ يذهب هذا ويجيء هذا، وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه، ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس؛ قال الشاعر [من البسيط]:

... ليّ الملاء بأبواب التّفاريج (١)

ومنها: أن كل واحد منها يغيب الآخر إذا طرأ عليه؛ فيشبه بالشيء الذي يلف عليه شيء آخر. ومنها: أن كل واحد منهما يكور على الآخر تكويرا دائما، فأشبه تكوير العمامة على الرأس. أو لأنه يؤخر عذابهم؛ فسمي تأخير العذاب مغفرة مجازا، وهو يوم القيامة أو إلى قضاء أجل كل واحد. فإن قلت: ما وجه دخول "ثم" في قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها؟} قلت: هما آيتان عظيمتان دالتا على قدرته ووحدانيته، وشعب هذا الخلق الكثير الذي لا يحصر من رجل واحد، ثم خلق الزوجة من الرجل، وجعلها من جنسه ليكون الأنس أتم، وخلق حواء من قصيراه (٢) إلا أن الأول منهما أجرى الله عز وجل فيهما العادة والتوالد بالتناسل. وأما خلق الأنثى من ضلع الرجل فلم تتكرر به عادة، فكانت أتم وأقوى في كونها آية؛ فعظمها ب‍ "ثم" للدلالة على أنها أتم في كونها آية؛ فهو من التراخي في الرتب. وقيل: التقدير: خلقكم من نفس وجدت ثم شفعها الله تعالى بزوج.

وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء.

{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ} (٢٢٩ /ب) أي: قضى لكم وقدر؛ لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، وحيث كتب في اللوح المحفوظ كل كائن إلى يوم القيامة.

وقيل: لا يعيش الحيوان إلا بالنبات، والنبات إلا بالماء؛ فأنزل ما به قوام الحيوان، وقيل:

خلقها في الجنة ثم أنزلها. {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} أصناف، ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج: اسم لواحد معه آخر فإذا انفرد فهو وتر؛ قال الله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} (٣) {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} حيوانا سويا، من بعد عظام مكسوة لحما، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف.


(١) هذا عجز بيت لذي الرمة يصف السراب، وصدره:
تلوي الثنايا بأحقيها حواشيه ... ينظر في: العين للخليل (٣/ ٢٥٤)، الكشاف للزمخشري (٤/ ١١٢)، لسان العرب (حقا) وحواشيه: جوانبه. والملاء: جمع ملاءة وهي الجلباب، والتفاريج: جمع التفراج: الباب الصغير والثوب من الديباج.
(٢) قصيراه: آخر الأضلاع. ينظر: غريب الحديث للحربي (٢/ ٤٠٨).
(٣) سورة الليل، الآية (٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>