للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النزاهة ضرب من الهجو، غير أنه يتعين أن يكون بألفاظه منزهة عن الفحش والسخف، وهو معنى قول أبي عمرو بن العلاء: خير الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها، فلا يقبح بمثلها.

كقول أوس:

إذا ناقة شدت برحل ونمرق ... إلى حسن بعدي فضل ضلالها.

واختار ثعلب مثل قول جرير:

فغض الطرف إنك من نمير فلا كعب بلغت ولا كلابا.

قال ابن الأثير: وبين المذهبين تناسب، إلا أن بيت جرير أهجي، لما فيه منم التفصيل.

قال الحافظ السيوطي وغيره: جميع هجاء القرآن من نوع النزاهة، فمنه قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون) فإن ألفاظ ذم هؤلاء المخبر عنهم بهذا الخبر، أتت منزهة عما يقع في الهجاء من فحش.

وقالوا: أحسن ما وقع في هذا الباب قول جرير أيضاً:

ولو ترمى بلؤم بني كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسار.

ولبس النهار بني كليب ... لدنس لؤمهم وضح النهار.

وما يغدو عزيز بني كليب ... ليطلب حاجة الإبجار.

وقول أبي تمام يهجو صالح بن عبد الملك بن صالح الهاشمي:

يا أكرم الناس آباء ومفتخرا ... وألأم الناس مبلوا ومختبرا.

تغضي الرجال إذا آباؤه ذكروا=لهم ويغضي لهم أن فعله ذكرا.

وقول الخوارزمي في الصاحب بن عباد: لا تحمدن ابن عباد وإن هطلت=كفاه يوما ولا تذممه إن حرما.

فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ولا يمنع لا بخلا ولا كرما.

فأجابه الصاحب بعد موته:

أقول لركب من خراسان قافل ... أمات خوارزميكم قيل لي نعم.

فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من كفر النعم.

وقول ابن المعتز:

فأما الذي محصيهم فمكثر ... وأما الذي يطريهم فمقلل.

وقول البحتري:

له همة لو يجمع الله شملها ... على الناس لم تجمع لمكرمة شمل.

له حسب لو كان للشمس لم تبن ... وللماء لم يعذب وللنجم لم يعل.

وقول البديع الهمذاني:

غني رأيت من المكارم حظكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا.

وإذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا.

وقول يوسف بن حمويه من شعراء اليتيمية:

إذا ما جئت أحمد مستميحا ... فلا يغررك منظره الأنيق.

له لطف وليس لديه عرف ... كبارقة تروق ولا تريق.

فما يخشى العدو له بعيدا ... كما بالوعد لا يثق الصديق.

فائدة- قال ابن بسام في الذخيرة: الهجاء ينقسم إلى قسمين، فقسم يسمونه هجاء الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابا مقذعا، وهجوا مستشبعا، وهو طأطأ قديما من الأوائل، وثل عروش القبائل؛ غنما هو توبيخ وتعيير؛ وتقديم وتأخير؛ كقول النجاشي في بني عجلان؛ وشهرة شعره منعتني عن ذكره؛ واستعدوا عليه عمر بن الخطاب؛ وأنشده قول النجاشي فيهم؛ ودرء الحد بالشبهات.

وفعل ذلك الزبرقان، حين شكا الحطيئة، وسأله أن ينشده ما قاله فيه فأنشده قوله:

دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي.

فسال عن ذلك كعب بن زهير فقال: والله ما أود بما قال له حمر النعم. وقال حسان: لم يهجه ولكن سلح عليه؛ فهم عمر بعقابه؛ ثم استعطفه بشعره المشهور.

وقال عبد الملك بن مروان يوما: أحسابكم يا بني أمية؛ فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وإن الأعشى قال في:

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا.

ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى وقال: أنفعل هذا نحن بجارتنا؟ ودعا عليه. فما ظنك بشيء يبكي علقمة بن علاثة؟ وقد كان عندهم إذا ضرب بالسيف ما قال حس.

وقد كان الراعي يقول: هجوت جماعة من الشعراء؟ وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها.

ولما قال جرير: فغض الطرف إنك من نمير=فلا كعبا بلغت ولا كلابا.

<<  <   >  >>