للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالأول - نحو قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فإن اللطيف يناسبه كونه غير مدرك بالأبصار, والخبير يناسب كونه مدركاً للأشياء, لأن المدرك للشيء يكون خبيرا. وقوله تعالى (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون. أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) فقوله (أفلا يسمعون) في ختام الآية الأولى يناسب قوله سبحانه في أولها (أو لم يهد لهم) لأن الموعظة سمعية, وقوله سبحانه في ختام الثانية (أفلا يبصرون) يناسب قوله في أولها (أو لم يروا) لأن الموعظة بصرية.

ومنه ما روي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ (فغن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله - غفور رحيم بدل - عزيزي حكيم) ولم يكن الإعرابي يقرأ القرآن فقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا, لأن الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل, إنه إغراء عليه. فظهر أن المناسب ما عليه التلاوة.

والثاني - كقوله تعالى (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) . فإن قوله سبحانه وتعالى (وإن تغفر لهم) يوهم أن الفاصلة, الغفور الرحيم, ولكن إذا أمعن وأنعم النظر علم أنه يجب أن تكون على ما عليه التلاوة, لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه, فهو العزيز الحكيم.

وفي صفاته تعالى, وهو الغالب, من قولهم: عزه يعزه: إذا غلبه, ومنه المثل (من عزَّ بزَّ) أي من غلب سلب, ووجب أن يوصف بالحكيم أيضاً لأن الحكيم من يضع الشيء في محله, والله تعالى كذلك, فكان في الإتيان به احتراس لئلا يتوهم أن الغفران لهم مع استحقاق العذاب خارج عن الحكمة, أي أن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا اعتراض لأحد عليك في ذلك والحكمة فيما فعلته.

إذا عرفت ذلك فبيت بديعتي المذكور من النوع الأول من تناسب الأطراف, وهو الظاهر. فإن قولنا في صدر البيت (فاسمع تناسب أطراف المديح له) يناسب قولنا في عجزه (وأفهم معانيه إن كنت ذا فهم) . لأن من سمع شيئاً يلزمه فهمه, فالمناسبة ظاهرة. والفهم بتحريك الهاء أفصح من الفهم بسكونها, كما نص عليه في القاموس, والله سبحانه وتعالى أعلم.

[ائتلاف المعنى مع المعنى]

معظم بائتلاف المعنيين له ... من عفو مقتدر أو عز منتقم

هذا النوع أيضاً قسم من المناسبة المعنوية وهو قسمان: أحدهما - أن يشتمل الكلام على معنى يصح معه معنيان أحدهما ملائم له بحسب نظر دقيق, والآخر ليس كذلك, فيقرن بالملائم.

كقول أبي الطيب:

فالعرب منه مع الكدري طائرة ... والروم طائرة منه مع الحجل

فان الكدري وهو ضرب من القطا من طير السهل؛ والعرب بلادها المفاوز؛ فقارن بينهما لمكان هذه الملائمة الدقيقة؛ والحجل من طير الجبل والروم بلادها الجبال, فقارن بينهما لهذا التناسب الدقيق. والمعنى: أن العرب تفر منه مع القطا في السهل, والروم تفر منه مع الحجل في الجبال. قال الطيبي: وعليه قول تعالى (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم) . ناسبت هذه التوبة لفظة الباري دون غيره من الأسماء, لأن الباري هو الذي خلقهم بريئا من التفاوت, وهي نعمة جسيمة, وكان من حق الشكر أن يخصوه بالعبادة, فلما عكسوا وقابلوها بالكفران حيث عبدوا مالا تميز له أصلاً استردت منهم تلك النعمة بالقتل والانفكاك عن الحياة.

وثانيهما - أن يشتمل الكلام على معنى له ملائمان, يصح أن يقرن كل منهما به, لكن يختار الأحسن منهما, وما لاقترانه به مزية على الآخر فيقرن بذلك المعنى.

كقول أبي الطيب أيضاً:

وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك ضحاك وثغرك باسم

<<  <   >  >>