ومنها ما ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر في ترجمة أبي القاسم الكسروي قال: كان يقول: قولي لعدوي: أعزك الله، إنما أريد أعزه الله حتى لا يوجد في الدنيا، وقولي: أطال الله بقاك: وأدام عزك وتأييدك، وجعلني فداك، أي من هذا الدعاء كله، فصار الدعاء لي دونه.
وقد ذكر بعضهم في هذا النوع أمثلة ليست منه قطعا فلا يغتر بها.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
لأنت عندي أخص الناس منزلة ... إذ كنت أقدرهم عندي على السلم
المواربة في (أخص) يريد بها (أخس) بالسين المهملة و (أقدرهم) يريد بها (أقذرهم) بالذال المعجمة.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
لأنت أفتح ذهنا في مواربة ... وبالتعقل منسوب إلى النعم
مراده ب (أفتح) ؛ (أقبح) بالقاف والباء الموحدة؛ و (بالتعقل) ؛ (التغفل) بالغين المعجمة والفاء، وب (النعم) بكسر النون (النّعم) بفتحها وهو اسم جامع للإبل وغيرها.
وبيت بديعية لبن حجة قوله:
يا عاذلي أنت محبوب لدي فلا ... توارب العقل مني واستفد حكمي
أراد ب (محبوب) ، (مجنون) وبلفظة (توارب) ، (توازن) .
ولم ينظم الشيخ عبد القادر الطبري هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعيتي هو قولي:
هديت يا لائمي فاترك مواربتي ... فليس يحسن إلا ترك ودهم
المواربة في موضعين: أحدهما (هديت) من الهدى، والمراد (هذيت) بالذال المعجمة من الهذيان وهو التكلم بغير معقول لمرض أو غيره، والثاني (يحسن) بالحاء والسين المهملتين، والمراد (يخشن) بالخاء والشين المعجمتين.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
والعاذلان على من قده غصن ... كالبان هزا متى ما ناضحا اتهم
هذا البيت بديع في هذا النوع جدا؛ والمواربة في قوله (كالبان هزا) فأن الظاهر أن الكاف للتشبيه، والبان: الشجر المعروف، وهزا بالزاي المعجمة تمييز من هز الغصن يهزه: إذا حركه، والمراد (كلبان) تثنيه كلب، و (هرا) بالراء المهملة من هرير الكلب، وهو صوته دون نباحه من قلة صبره على البرد.
[التفويف]
أحسن أسئ ظن حقق أدن أقص أطل ... حك وش فوف أبن أخف ارتحل أقم
التفويف: مشتق من قولهم: برد مفوف، وهو الذي فيه خطوط بيض تغاير سائر لونه. وحقيقته: إتيان المتكلم بمعان شتى من أغراض الشعر من غزل أو مدح أو غير ذلك في جمل من الكلام، كل جملة منفصلة من أختها مع تساوي الجمل في الوزنية، ويكون بالجمل الطويلة والمتوسطة والقصيرة وهي أحسنها، لدلالتها على قدرة الشاعر وتذليله صعب الألفاظ، فأنها أصعب مسلكا مما كان بالجمل الطوال والمتوسطة، ووجه تسمية ذلك بالتفويف أن المتكلم خالف بين جمل المعاني في التقفية كمخالفة البياض لسائر الألوان لأن بعده من سائر الألوان أشد من بعد بعضها من بعض، فكان الكلام حينئذ برد مفوف.
وعلى ذلك فما أحلى قول أبي محمد عبد الله بن محمد التنوخي المعروف بابن قاضي ميلة من قصيدته المشهورة:
ولما التقينا محرمين وسيرنا ... بلبيك ربا والركائب تعسف
نظرت إليها والمطي كأنما ... غواربها منها معاطس رعف
فقالت أما فيكن من يعرف الفتى ... فقد رابني من طول ما يتشوف
أردنا إذا سرنا يسير حذاءنا ... ونوقف أخفاف المطي فيوقف
فقلت لتربيها أبلغاها بأنني ... بها مستهام قالتا نتطلف
وقولا لها يا أم عمر وأليس ذي ... منى والمنى في خيفه ليس تخلف
تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا ... بأن عن لي منك البنان المطرف
وفي عرفات ما يخبر أنني ... بعارفه من عطف قلبك أسعف
وأما دماء الهدي فهي هدى لنا ... يؤم ورأي في الهوى يتألف
وتقبيل ركن البيت إقبال دولة ... لنا وزمان بالمودة يعطف
فأوصلتا ما قلته فتبسمت ... وقالت أحاديث العيافة زخرف
بعيشي ألم أخبركما أنه فتى ... على لفظه برد الكلام المفوف
وما أحسن ما قال بعده:
فلا تأمنا ما استطعتما كيد نطقه ... وقولا سدري أينا اليوم أعيف
إذا كنت في منى الفوز بالمنى ... ففي الخيف من أعراضنا تتخوف
وقد أنذر الإحرام أن وصالنا ... حرام وأنا عن مزارك نصدف