قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخة ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
ذكر خياطة الجبة بلفظ الطبخ لوقوعها في صحبة الطعام, ولا يلزم تقديم الصاحب لمجيئه متأخرا, كقوله عليه السلام (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ فعليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) فعبر عن قطع الثواب بالملل لوقوعه في صحبته وهو متأخر عنه.
وقول أبي تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها ... إني بنيت الجار قبل المنزل
فبناء الجار إنما سوغه بناء المنزل وهو متأخر عنه.
وأحسن ما اعتذر به عن قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
انه من هذا الباب, وإن إثبات الماء للملام بمشاكلة ماء البكاء المتأخر عنه.
واستشهد كثير لهذا النوع بقول ابن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قالوا: سمى جزاء الجهل جهلا مشاكلة. واعترض بأنه إنما كان جهلا للزيادة على جهل الأول, فهو أيضاً جاهل متعد كالأول, وغاية ما يمكن أن يقال في جوابه: إن الزيادة على جهل الظالم في مكافأة ظلمه ليس ظلما في اعتقاد الشاعر, لأن الجهل عنده ما لا يكون له سبب يحال عليه عادة, والأول كذلك, وأما الثاني وإن زاد فيصح أن يحال على الأول.
والثاني: وهو ما يكون وقوعه في صحبة غيره تقديرا, كقوله تعالى "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون" فقوله: صبغة الله, مصدر مؤكد منتصب عن قوله: آمنا بالله, لأن الإيمان يطهر النفوس, فعبر عن الإيمان بالصبغة وإن لم يقع في الصبغ. لأن سبب النزول دال عليه, وذلك أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم, فعبر عن مقابله من تطهير القلوب بالإيمان بصبغة الله مشاكلة, لوقوعه في صحبة صبغة النصارى تقديرا وإن لم يذكر ذلك لفظا, وهذا كما تقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان, تريد رجلا يصطنع الكرام ويحسن إليهم, فتعبر عن الاصطناع بلفظ الغرس للمشاكلة, وقرينة الحال, حيث كان مشغولا بالغرس وإن لم يكن له ذكر في المقال.
حكي أن فقيراً وقف على بعض الولاة وهو يغرس فسيلا فأنشده:
إن الولاية لا تدوم لواحد ... إن كنت تنكره فأين الأول
فاغرس من الفعل الجميل غرائسا ... فإذا عزلت فإنها لا تعزل
وأرباب البديعيات إنما بنوا أبياتهم على النوع الأول, وهو ما يكون وقوعه في صحبة غيره تحقيقا لأنه الأشهر والأكثر في الاستعمال.
وبيت بديعية الصفي قوله:
يجزي إساءة باغيهم بسيئة ... ولم يكن عاديا منهم على ارم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
سقاهم الغيث واستسقى لهم ذهبا ... فغير كفيه إن أمحلت لا تشم
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
يجزي بسيئة للضد سيئة ... معنى مشاكلة من خير منتقم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
من اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم
وبيت بديعية المقري قوله:
يضاعف الأجر والحسنى ويردع عن ... ظلم بظلم ويعفو عن كثيرهم
وبيت بديعية العلوي قوله:
إن الرحيم جزى بالسوء سيئة ... قطيعة العفو للأصحاب والرحم
وبيت بديعية الطبري قوله:
جازى بالإحسان إحسانا مشاكلة ... وألف اللفظ بالمعنى لملتئم
وبيت بديعيتي قولي:
يجزى العداة بعدوان مشاكلة ... والفضل بالفضل ضعفا في جزائهم
[ما لا يستحيل بالانعكاس]
ألم يفد أجر بر جاد في ملأ ... لم يستحل بانعكاس عن عطائهم
هذا النوع سماه السكاكي مقلوب الكل, وبعضهم المقلوب المستوي, وعرفه الحريري في مقاماته بما لا يستحيل بالانعكاس, وهو أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته أي ابتدأت به من حرفه الأخير إلى حرفه الأول كان إياه, وهو قد يقع في النثر وقد يقع في النظم.
أما وقوعه في النثر فكقوله تعالى "كل في فلك" وقوله "ربك فكبر" وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارقا) .
وقول الحريري: كبر أجر ربك.
وقول القاضي الفاضل: أبدا لا تدوم إلا مودة الأدباء.
وقال العماد الكاتب للقاضي الفاضل وقد مر عليه راكبا فرسا: سر فلا كبابك الفرس, فقال له القاضي الفاضل: دام علا العماد.