للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنه قوله تعالى حكاية عن مستحلي الربا "إنما البيع مثل الربا" فإن مقتضى الظاهر هو أن يقال: إنما الربا مثل البيع, لان الكلام في الربا لا في البيع, فخالفوا بجعلهم الربا في الحل أقوى من البيع وأعرف به.

الثاني: بيان الاهتمام بالمشبه به, كتشبيه الجائع وجها كالبدر في الإشراق والاستدارة, بالرغيف, إظهارا للاهتمام بشأن الرغيف لا غير, وهذا يسمى: إظهار المطلوب, ولا يحسن المصير إليه إلا في مقام الطمع في تسني المطلوب.

كما يحكى عن الصاحب بن عباد, أن قاضي سجستان دخل عليه فوجده الصاحب متفننا فأخذ يمدحه, حتى قال (وعالم يعرف بالسجزي) وأشار إلى الندماء أن ينظموا على أسلوبه, ففعلوا واحدا بعد واحد, إلى أن انتهت النوبة إلى شريف في البين فقال (أشهى إلى النفس من الخبز) فأمر الصاحب أن تقدم له مائدة.

هذا كله -أعنى ما ذكرناه- من جعل أحد الشيئين مشبها, والآخر مشبها به, إنما يكون إذا أريد إلحاق الناقص بالزائد حقيقة أو دعاء. فإن أريد الجمع بين شيئين في أمر من الأمور من غير قصد إلى كون أحدهما زائدا والآخر ناقصا, سواء وجدت الزيادة والنقصان أو لم توجد, فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه, ليكون كل واحد من الشيئين مشبها ومشبها به, احترازا من ترجيح المتشابهين في وجه الشبه.

كقول ابن نباتة السعدي:

فو الله ما أدري أتلك مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر

إذا صبها جنح الظلام وعبها ... رأيت رداء الشمس يطوى وينشر

وقول الصاحب:

رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر

وقول أبي إسحاق الصابي:

جرت الدموع دما وكأسي في يدي ... شوقا إلى من لج في هجراني

فتخالف الفعلان شارب قهوة ... يبكي دما وتشابه اللونان

فكأن ما في الجفن من كأسي جرى ... وكأن ما في الكأس من أجفاني

ويجوز التشبيه أيضاً كتشبيه غرة الفرس بالصبح, والصبح بغرة الفرس, متى أريد إظهار منير في مظلم أكثر منه, وتشبيه الشمس بالمرآة المجلوة, والدينار الخارج من السكة, وبالعكس, متى أريد استدارة متلالي متضمن لخصوص من اللون, وإن عظم التفاوت بين بياض الصبح وبياض الغرة, ولون المرآة والدينار, وبين الجرمين, فانه ليس شيء من ذلك بمنظور إليه في التشبيه.

الفصل الرابع في الأحوال وهي كيفيات يحصل بها حسن التشبيه وقبحه, وقبوله ورده. أما أحوال الحسن فعلى وجوه: أحدها: أن يكون سليما من الابتذال لا تستعمله العامة. كقولهم في السواد كالفحم, وفي البياض كالثلج, لان تجدد صورة عند النفس أحب من مشاهدة معاد, ألا ترى أن الثمرة البالغة حد الكمال في النضج لا يرغب فيها رغبة الباكورة, والبدر التام لا يلتفت إليه التفات الهلال, والشمس في الشتاء أعز منها في الصيف, ولا يتجشم للأهل والأقارب ما يتجشم للضيف.

الثاني: أن يكون أدراك وجه الشبه فيه مرتفعا عن أذهان العامة, كقول فاطمة الأنمارية في بنيها الكملة, وهم, ربيع الكامل, وعمارة الوهاب, وقيس الحفاظ, وأنس الفوارس أولا زياد العبسي -وقد سئلت أيهم أفضل- فقالت: عمارة؛ لا؛ بل أنس؛ لا؛ ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل؛ وهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها؛ أي هم متناسبون في الفضل, يمتنع تعيين بعضهم فاضلا, وبعضهم أفضل منه. كما أن الحلقة المفرغة متناسبة الأجزاء في الصورة؛ يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا؛ لكونها مفرغة مصمتة الجوانب. فوجه الشبه في هذا التشبيه (وهو التناسب) لا يدركه إلا الخاصة الذين ارفعوا عن طبقة العامة.

الثالث: أن يكون التشبيه بعيدا غريبا لا يدرك في بدء الفكر. أما لندور حضور المشبه به عند حضور المشبه كما مر من تشبيه البنفسج بنار الكبريت, أو مطلقا لكونه وهميا كتشبيه نصال السهام بأنياب الأغوال, أو مركبا عقليا كتشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا, أو لقلة تكرره على الحس كقوله (والشمس كالمرآة في كف الأشل) فإن المرآة في كف الأشل قليل التكرار على الحس, بل ربما يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل.

ولهذا كان قول الصنوبري:

وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق

أفضل من قول ذي الرمة:

<<  <   >  >>