للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أصبحت أظهر شكرا عن صنايعه ... وأضمر الود فيه إضمار

كيانع النخل يبدي للعيون ضحى ... طلعا نضيدا ويخفي غض جمار

وقال ابن لنكك:

إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ... رأيت صورته من أقبح الصور

وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر

وقول ابن الرومي:

بذل الوعد للأخاء سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء

فغدا كالخلاف يورق للعي ... ن ويأبى الاثمار كل الإباء

وقول أبي تمام:

وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود

وقس حالك وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني, على حالك وأنت قد انتهيت إليه ووقفت عليه, تعلم بعد ما بين حالتيك في تمكن المعنى لديك. وشاهد بعد الفرق بين أن تقول: الدنيا لا تدوم وتقتصر على ذلك, وبين أن تذكر عقيبه ما روي عنه عليه السلام: من في الدنيا ضيف وما في يديه عارية والضيف مرتحل, والعارية مردودة.

أو تنشد قول لبيد:

وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بد يوما أن ترد الودائع

وبين أن تقول: أرى قوما لهم منظر وليس لهم مخبر وتسكت, وأن تتبعه.

وقول ابن لنكك:

في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وماله ثمر

وانظر في جميع ذلك في الحالة الثانية كيف يتزايد شرفه عليه في الحالة الأولى, وسببه أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي وتأتيها بصريح بعد مكني, وأن تردها فيما تعلمه إلى ما هي بشأنه أعلم ولهذا كان التمثيل بالمشاهد أوقع, ولمادة الشبه أقطع.

واعلم أن التشبيه يستدعي خمسة أشياء: أحدها: الطرفين, أعني المشبه والمشبه به ليحصل التشبيه, لأنه من الأمور النسبية المفتقرة إلى المنتسبين.

الثاني: الوجه المشترك, ليجمع الطرفين.

الثالث: الغرض, ليصح العدول إليه من أصل المعنى, فلا يعد عيبا.

الرابع: الأحوال, ليحسن التشبيه برعاية مقبولها, والاحتراز عن مردودها.

الخامس: الأداة, لتوصل أحد الطرفين بالآخر لفظا, كما يوصله الوجه معنى, ولنبين ذلك في خمسة فصول.

الفصل الأول في الطرفين وهما إما حسيان كما في تشبيه الخد بالورد, والقد بالغصن, والفيل بالجبل في المبصرات, والصوت الضعيف بالهمس, وأطيط الرجل بأصوات الفراريج في المسموعات, والنكهة بالعنبر والمسك في المشمومات, والريق بالعسل والخمر في المذوقات, والجلد الناعم بالحرير, والخشن بالمسح في الملموسات. وإما عقليا, كتشبيه العلم بالحياة, والجهل بالموت.

وإلى هذا أشار الشاعر بقوله:

أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم

وقال آخر:

رب حي كميت ليس فيه ... أمل يرتجى لنفع وضر

وعظام تحت التراب وفوق الأ ... رض منها آثار حمد وشكر

وإما مختلفان بأن يكون المشبه عقليا, والمشبه به حسيا, أو بالعكس, فالأول كتشبيه المنية بالسبع, فإن المنية وهو الموت, عقلي, لأنه عدم الحياة عما من شأنه الحياة والسبع حسي.

والثاني كما في تشبيه العطر بخلق كريم, فإن العطر -وهو الطيب- محسوس بالشم, والخلق وهو كيفية نفسانية تصدر عنها الأفعال بسهولة, عقلي.

قال الزنجاني في المعيار: وهذا القسم -أعني تشبيه المحسوس بالمعقول- غير جائر, لأن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية إليها, ولذلك قيل: من فقد حسا فقد علما. وإذا كان المحسوس أصلا للمعقول, فتشبيهه به يكون جعلا للفرع أصلا, والأصل فرعا, وهو غير جائز. ولذلك لو حاول محاول المبالغة في وصف الشمس في الظهور, والمسك في الطيب, فقال: الشمس كالحجة في الظهور, والمسك كخلق فلان في الطيب, كان سخيفا من القول. وأما ما جاء في الأشعار من تشبيه المحسوس بالمعقول, فوجهه أن يقدر المعقول محسوسا, فيجعل كالأصل في ذلك المحسوس على طريق المبالغة, فيصح التشبيه حينئذ. انتهى.

واعلم أن المراد بالحسي المدرك -هو أو مادته- بإحدى الحواس الخمس الظاهرة, وهي البصر, والسمع, والشم, والذوق؛ واللمس. فدخل فيه الخيالي, وهو الذي فرض مجتمعا من أمور كل واحد منها مدرك بالحس.

كما في قوله:

<<  <   >  >>