(وقد يكل خاطر الشاعر ويعصي) عليه الشعراء زمانا. كما روي عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر علي (زمان وقلع) ضرس من أضراسي أهون علي من أقول بيتا واحدا. فإذا كان كذلك فاتركه حتى يأتيك عفوا, وينقاد إليك طوعا. وإياك وتعفيد المعاني (وتقعير) الألفاظ, وتوخ حسن النسق عند التهذيب, ليكون كلامك بعضه آخذا بأعناق بعض. وكرر التنقيح وعاود التهذيب, ولا تخرج عنك ما نظمته إلا بعد تدقيق النقد, وإمعان النظر. انتهى.
وما أحسن ما قال أبو محمد الخازن:
لا يحسن الشعر ما لم يسترق له ... حر الكلام وتستخدم له الفكر
انظر تجد صور الأشعار واحدة ... وإنما لمعان تعشق الصور
وإذ قد ذكرنا تهذيب بن الأثير: يستحب للشاعر أن يكون حسن الأخلاق, حلو الشمائل, مأمون الجانب, طلق الوجه, طلق اليدين, وإلا هو كما قال ابن أبي فنن:
وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
قان اتصف بذلك كان أملأ في العيون, وألوط بالقلوب.
ويستحب له أن يكثر من حفظ شعر العرب لاشتماله على ذكر أخبارهم وآثارهم, وأنسابهم وأحسابهم, وفي ذلك تقوية لطبعه, وبه يعرف المقاصد, ويسهل عليه اللفظ, ويتسع المذهب, فإنه إذا كان له طبع وأخل بذلك فربما طلب معنى فلا يصل إليه, وهو ماثل بين يديه لضعف آلته, كالمقعد يجد في نفسه القوة على النهوض فلا تعنيه آلته.
وسئل رؤبة عن الفحل من الشعراء فقال: هو الراوية, انه إذا روى استفحل, قال ابن حبيب: لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد شعر غيره, فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة.
وقال رؤبة في صفة شاعر:
لقد خشيت أن يكون ساحرا ... راوية مرا ومرا شاعرا
فاستعظم حاله حتى قرنها بالسحر.
وكان امرأ القيس راوية أبي داود الأيادي, مع فضل نخيرته, وقوة غريزته.
وكان زهير راوية أوس بن حجر, وطفيل الغنوي.
وكان الحطيئة راوية زهير.
وكان الفرزدق على فضله يروي للحطيئة كثيرا.
وكان كثير راوية جميل, ولم يكن بدون الفرزدق وجرير, بل كان يقدم عليهما عند أهل الحجاز, ولا يستغني عن تصفح أشعار المحدثين المجيدين لما فيها من حلاوة اللفظ, وقرب المأخذ, وإشارات الملح, ووجوه البديع, وأن يكون متصرفا في أنواع الشعر, من جد وهزل, وحلو وجزل, ومدح وهجاء, ورثاء وافتخار واعتذار, فإن كان كذلك لم يمل شعره, فيحكم له بالتصرف والتقدم.
وقد ادعى ذلك حبيب في القصيدة الواحدة فقال:
الجد والهزل في توشيع لحمتها ... إلا التصرف والسخف والأشجان والطرب
وقال إسماعيل بن القاسم أبو عتاهية:
لا يصلح النفس إذا كانت مركبة ... إلا التصرف من حال إلى حال
ويكره للشاعر أن يكون معجبا بنفسه, مثنيا على شعره وإن كان مجيدا, إلا أن يريد ترغيب ممدوح أو ترهيبه, وقد جوز له ذلك مسامحة. انتهى.
وقد تقدم أن هذا النوع ليس إلا شاهد يخصه, فلنكتف من شواهده على أبيات البديعيات: فبيت بديعية الشيخ صفي الدين قوله:
هو النبي الذي آياته ظهرت ... من قبل مظهره للناس في القدم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
والله هذبه طفلا وأدبه ... فلم يحل هديه الزاكي ولم يرم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تهذيب تأديبه قد زاده عظما ... في مهده وهو طفل غير منفطم
وبيت بديعية الطبري قوله:
ما ذاك باليمن محفوظ العناية من ... تهذيب تأديبه المرعي في اليتم
وبيت بديعيتي هو:
تهذيب فطرته أغناه عن أدب ... في القول والفعل والأخلاق والشيم
وبيت بديعية المقري قوله:
كلتا يديه يمين بالندى انبسطت ... فاقبض يسارك يا أخا الندم
[الاتفاق]
ما زال آباؤه بالحمد مذ عرفوا ... فكان أحمدهم وفق اتفاقهم
هذا النوع وإن سمي بالاتفاق إلا أنه قليل الاتفاق لعزة وقوعه, وهو عبارة عن أن يتفق للمتكلم واقعة وأسماء يطابقها, إما مشاهدة أو سماعا, كما اتفق للرضي بن أبي حصينة المصري في حسام الدين لؤلؤ حاجب الملك الناصر صلاح الدين, حين أرسله غازيا للإفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم, فظفر بهم, فقال الشاعر المذكور يخاطب الإفرنج:
عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير