بواطئ فوق خد الصبح مشتهر ... وطائر تحت ذيل الليل مكتتمِ
والمقابلة في هذا بين خمسة أيضاً.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
ليل الشباب وحسن الوصل قابله ... صبح المشيب وقبح الهجر واندمي
المقابلة في هذا البيت بين أربعة. قال ابن حجة: وأتى بلفظة قابلة اضطراراً لتسمية النوع، وأما قوله: واندمي، فقافية مستدعاة أجنبية من المقابلة، فإنه لم يؤهلها لمقابلة ضده، ولا لغيره بل تركها بمنزلة الأجانب. انتهى.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا ... ولوا غضاباً فوا حزني لغيظهمِ
هذا البيت فيه المقابلة بي أربعة أيضاً، وهي ظاهرة، وقافيته متمكنة غير أنه فصل بين الجملتين، والوصل فيهما متعين لاتفاقهما في الخبرية لفظاً ومعنى، ووجود الجامع بينهما وهو التضاد، فكان حقه أن يقول: فولوا غضاباً، ولا يخفى ما في البيت من الغلق وعدم الانسجام بسبب هذا الفصل.
وبيت الطبري قوله:
وحسن وصل وسلم القرب قابله ... بقبح هجر وحرب البعد للتهمِ
لفظة (قابله) هنا مثلها في بيت الموصلي.
وبيت بديعيتي قولي:
ولوا بسخط وعنف نازحين وقد ... قابلتهم بالرضا والرفق من أممِ
المقابلة فيه بين أربعة، وجميعها أضداد كما لا يخفى.
وبيت بديعية إسماعيل المقري قوله:
قد بكى الجفن حزناً بعد بعدهم ... كضحك ثغري سروراً عند قربهمِ
المقابلة فيه بين خمسة لكنها بالأضداد وغيرها.
وإن هم استخدموا عيني لرعيهم=أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي الاستخدام في اللغة، استفعال من الخدمة، وأما اصطلاحاً فلهم فيه عبارتان: إحداهما أن يؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مراداً به أحد معانيه، ثم يؤتى بضمير مراداً به المعنى الآخر، أو بضميرين مراداً بأحدهما أحد المعاني وبالآخر المعنى الآخر.
فالأول كقول جرير -: -
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
أرد بالسماء: الغيث، وبالضمير الراجع من رعيناه: النبت.
والثاني كقول البحتري:
فسقى الغضا والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانح وقلوبِ
فالغضا أرض لبني كلاب، وواد بنجد، وشجر معروف، فأراد بأحد الضميرين الراجعين إلى الغضا وهو المجرور في الساكنية: أحد المكانين، وبالآخر وهو المنصوب في شبوه: الشجر، أي أوقدوا ناراً الغضا بين جوانح وقلوب. وهذه طريقة الخطيب في الإيضاح والتلخيص، ومن تبعه، وعليها مشى أكثر الناس وأصحاب البديعيات.
الثانية - أن يؤتى بلفظ مشترك بين معنيين، ثم بلفظيين يخدم كل واحد منهما معنى من ذينك المعنيين، وهذه طريقة بدر الدين بن مالك في المصباح، ومشى عليها زكي الدين بن أبي الإصبع، ومثل له بقوله تعالى: (لكل أجلٍ كتاب. يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فلفظ كتاب يحتمل الأجل المحتوم، والكتاب المكتوب وقد توسط بين لفظي أجل ويمحو، فلفظة أجل تخدم المعنى الأول ويمحو يخدم الثاني.
قال الحافظ السيوطي في الإتقان: قيل: ولم يقع في القرآن على طريقة صاحب الإيضاح شيء من الاستخدام. وقد استخرجت بفكري آيات على طريقته، منها وهي أظهرها قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان في سلالة من طين) فإن المراد به آدم، ثم أعاد الضمير عليه مراداً به ولده، فقال (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) ومنها قوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم) ثم قال (قد سألهاش قوم من قبلكم) أي أشياء أخر، لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سأل عنها الصحابة فنهوا عن سؤالها. انتهى.
قال بن حجة والطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد، وهو استعمال المعنيين بضمير وبغير ضمير، وهذا هو الفرق بين التورية والاستخدام، فإن المراد في التورية أحد المعنيين، وفي الاستخدام كل منهما مراد. انتهى.
وهذان نوعان أعني التورية والاستخدام أشرف أنواع البديع وهما سيان عند بعضهم، وفضل بعضهم الاستخدام عليها فقال: إنه أعلى رتبة وأحلى موقعاً في الأذواق السليمة.