للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

فأن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم

قال في شرحه: قولي: غير مطرود، هو الاحتراس الذي يليق بمقام المادح بالنسبة إلى مقام النبي صلى الله عليه وإله وسلم.

وأنا أقول: الوقوف لا يشمل الطرد حتى يحترس عنه بقوله: غير مطرود بخلاف قول صفي الدين (فوقني) فأن هذه الصيغة يتبادر منها الأمر، فاحترس عنه بقوله: غير مأمور. فلو قال ابن حجة: فأن أعد، أو فأن أرجع كان له وجه.

وبيت بديعية المقري قوله:

والآل من فضل كل الآل عندهم ... كالآل لا الصحب ما يروي صدى لظمي

قال في شرحه: معناه وصل على الآل من فضل كل آل من فضلهم كالآل الذي هو السراب، ثم احترس لأجل الصحابة فقال: لا الصحب.

وبيت بديعية العلوي قوله:

فقل له وهو أدرى بالمقال وفي ... إحسانه الجم جبر الخلق كلهم

وبيت بديعيتي قولي:

وكم مننت بلا من على رجل ... من احتراس حلول الخطب لم ينم

فقولي (بلا من) هو الاحتراس لئلا يتوهم أن قوله (وكم مننت) من المن بمعنى تعديد ما فعل من الصنائع، مثل أن يقال: أعطيتك، وفعلت لك وهو تكرير وتعيير تنكسر منه القلوب، فلهذا نهى عنه الشارع بقوله (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) ومن هنا يقال: المن أخو المن، أي الامتنان بتعديد الصنائع أخو القطع والهدم. فأنه يقال مننت الشيء منا: إذا قطعته فهو ممنون، ومنه قوله تعالى (وإن لك لأجرا غير ممنون) والله سبحانه وتعالى أعلم.

[حسن البيان]

حسن البيان أرانا منك معجزة ... أضحت تقر لديها الفصح بالبكم

حسن البيان هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير، وإنما سمي هذا النوع بحسن البيان لأنه عبارة عن الإفصاح عما في النفس بألفاظ سهلة بليغة، بعيدة عن البس من غير حشو مستغنى عنه، يكاد يستر وجه حسن البيان، ويغطي واضح التبيان، حتى لا يكون.

كقول امرئ القيس:

كأني غداة البين يوم تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل

فأن أصل معناه إلا بأنه عن أن عينيه تدمعان، وذلك حاصل بقوله: كأني ناقف حنظل، لأن الحنظل مما تدمع العين بنقفه، وباقي الألفاظ مستدعاة زائدة. إذا عرفت ذلك فهذا النوع ليس له مثال يختص به، بل كل كلام دل على ما في النفس، وأعرب عما في الضمير بعبارة بليغة دخل في حد هذا النوع، والعلم في ذلك بيان كلام الله العظيم الذي هو النور المبين، كقوله تعالى في الاحتجاج القاطع للخصم (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال مت يحي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) ، وقوله تعالى في الإنكار والتعجب والتوبيخ (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) ، وقوله تعالى في الترغيب في طاعته وخشيته (ومن يطيع الله ورسوله ويخشن الله ويتقه فأولئك هم الفائزين) ، أيْ أي مكلف أطاع الله في فرائضه، ورسوله في سنته، وخشي الله على ما مضى من ذنوبه، واتقى فيما يستقبل فقد حاز الفوز بحذافيره.

ومما يدخل هذا النوع من الشعر قول أبي الطمحان:

وأني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيد قام صاحبه

نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه

أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وما زال منهم حيث كانوا مسود ... تسير المنايا حيث سارت ركائبه

فأنه أبان عن وصف قومه بعموم الرياسة فيهم، وتوارثها صاغراً عن كابر أحسن ابانة، ومدحهم بما قيل: أنه أمدح بيت قيل في الجاهلية وهو البيت الثالث من الأبيات وقال معاوية لعرابة بن أوس: أنت الذي يقول فيك الشماخ:

رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين

فبم سدت قومك؟ قال: والله ما أنا بأكرمهم حسبا، ولا بأفضلهم نسبا ولكني أعرض عن جاهلهم، وأسمح لسائلهم، فمن عمل مثل عملي فهو مثلي ومن زاد فهو أفضل مني، ومن فأنا أفضل منه، فقال معاوية: هذا والله الكرم والسؤود. والشاهد في هذه القطعة في النظم والنثر كما لا يخفى.

ومنه قول أبي عبادة البحتري في الرضا بعد الغضب وأجاد:

ما كان إلا مكافأة وتكرمة ... هذا الرضا وامتحاناً ذلك الغضب

<<  <   >  >>