فإنه لا تضاد فيه بين إرادة البهيم بمعنى بهيم الليل وبين العاذل، بل هو من الاستخدام على الطريقة المذكورة، فلفظ الليل يخدم البهيم بمعنى الأسود، ولفظ إبهام عذلي يخدم البهيم بمعنى العاذل. فلا يغرنك قوله في شرحه: أن الإبهام هنا بين بهيم الليل وبين العاذل، فإن اشتراك البهيم صالح لهما ولكن لم يحصل التميز لأحدهما عن الآخر كما وقع عليه الشرط بل الأمر بينهما مبهم لا يعلم من هو المقصود منهما. انتهى.
فإن هذا الإبهام الذي ذكره لغوي لا اصطلاحي، إذ اشترط تضاد المعنيين في حد الإبهام الاصطلاحي لم يختلف في كتاب من كتب البديع وأمثلتهم له كلها جارية على ذلك، والله أعلم.
والطبري جمع بين الإبهام والتهكم في بيت واحد فقال: أذقت إبهام ما يرضى الفؤاد فسد=تهكما أنت ذو عز وذو عظم.
الإبهام في قوله: يرضي الفؤاد، فإنه إن قيل: فؤاد العاشق، صح، أو العاذل، صح.
وبيت بديعيتي:
قالوا وقد أبهموا إذ بان مكتتمي ... في حبهم بان لكن أي مكتتم.
الإبهام في هذا البيت على حده في بيت ابن حازم المتعلق بزواج المأمون من بوران بنت الحسن المقدم ذكره وهو:
يا بن هارون قد ظفر ... ت ولكن ببنت من.
فإنه لا يعلم بما أراد ببنت من، في الحقارة، أو في الرفعة؟. وهنا كذلك، فإن قولهم: بان لكن أي مكتتم، لا يعلم ما أرادوا به، هل هو إعجاب به؛ أو احتقار له؟ فالأمر مبهم بين هذين المعنيين المتضادين محتمل لكل منهما على السواء، لا يتميز أحدهما عن الآخر.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري من هذا القبيل أيضاً وهو:
ما مثلهم في العلى هيهات أين هم ... وأين منصبهم في القدر والعظم.
قال ناظمه في شرحه: ما مثلهم في العلى محتمل، إنه أراد: لا نظير لهم في علوهم ومجدهم؛ ويحتمل أنه أراد: أن مثلهم لا يكون في العلى.
وكذلك قوله: هيهات أين هم وأين منصبهم في القدر والعظم، يحتمل أن سؤاله سؤال تفخيم وتعظيم، ويحتمل أنه أراد: الاحتقار والإعلام أنهم بحيث يفتش عليهم فلا يوجدون والله أعلم.
وابن جابر الأندلسي لم ينظم نوع الإبهام في بديعيته.
[الطباق.]
إن أدن ينأوا وما قلبي كقلبهم ... وهل يطابق مصدوع بملتئم
الطباق ويسمى المطابقة والتطبيق والتضاد والتكافؤ- وهو الجمع بين معنيين متضادين، أي معنيين متقابلين في الجملة، قالوا: ولا مناسبة بين معنى المطابقة لغة، ومعناها اصطلاحا، فإنها في اللغة الموافقة، يقال: طابقت بين الشيئين: إذا جعلت أحدهما على حذو الآخر، وطابق الفرس في جريه: إذا وضع رجليه مكان يديه، والجمع بين الضدين ليس موافقة.
قال ابن الأثير في المثل السائر: ولا أعلم من أي شيء اشتقوا هذا الاسم، ولا وجه للمناسبة بينه وبين مسماه، ولعلهم قد علموا لذلك مناسبة لطيفة لم نعلمها نحن. انتهى.
واغرب ابن أبي الحديد في قوله: الطبق في التحريك في اللغة، هو المشقة، قال الله سبحانه وتعالى "لتركبن طبقا عن طبق" أي مشقة بعد مشقة، فلما كان الجمع بين الضدين على الحقيقة شاقا بل متعذرا، ومن عادتهم أن تعطى الألفاظ حكم الحقائق في أنفسها توسعا، سموا كل كلام جمع فيه الضدين مطابقة وطباقا. انتهى.
وقال السعد التفتازاني في شرح المفتاح: إنما سمي هذا النوع مطابقة لأن في ذكر المعنيين المتضادين معا توفيقا، وإيقاع توافق بين ما هو في غاية التخالف كذكر الأحياء مع الإماتة، والإبكاء مع الضحك ونحو ذلك. انتهى.
وكأن ابن الأثير ظهر له وجه المناسبة فيما بعد فقال في كفاية الطالب: المطابقة هي عند الجمهور: الجمع بين المعنى وضده، ومعناها أن يأتلف في اللفظ ما يضاد في المعنى، وكأن كل واحد منهما وافق الكلام فسمي طباقا.
قال: وذكر الأصمعي المطابقة في الشعر فقال: أصلها وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع وأنشد:
وخيل تطابقن بالدراعين ... طباق الكلاب يطأن الهراشا
الهراش كحطام الشوك، ولذلك خص الوطأ فيه، لأن الكلب إذا مشى فيه رأى أين يضع يده فيضع رجله موضعها، وفي ذوات الأربع ما لم تجاوز رجله موضع يده، وقد يطابق من ثقل يحمله، أو شيء يتقيه، وقد يطابق بعضها على كل حال.
قال: وأحسن بيت قيل في ذلك لزهير:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا.