للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كأنه قصد أن ينحو بهذا التمثيل منحى الحديث المتقدم من حديث أم زرع وهو (زوجي كليل تهامة) إلى آخره. وأين ليل تهامة من ليل الشتاء؟ فليل تهامة - كما قالت - لا حر ولا قر ولا وخامة ولا سآمة، وأما ليل الشتاء فمذموم لشدة برده وطوله.

كما قال الشاعر:

لنا صديق وله لحية ... من غير ما نفع ولا فائدة

كأنها بعض ليالي الشتا ... طويلة مظلمة باردة

وبالجملة فما قصر في هجو أحبابه. ثم انظر ما معنى قوله: تمثيلهم لي مونس النسم؟.

وبيت بديعيتي قولي:

طربت في البعد من تمثيل قربهم والمرء قد تزدهيه لذة الحلم

الطرب محركة: خفة تلحق الإنسان تسره أو تسوؤه، والمراد به هنا: السرور، والتمثيل هنا بمعنى التصوير، مورى به عن اسم النوع، قال في القاموس: مثله له تمثيلا: صوره حتى كأنه ينظر إليه. انتهى. والازدهاء: الاستخفاف، ومنه قولهم: فلان لا يزدهي بخديعة. والمعنى أنه طرب من تصوير قرب أحبابه في حال البعد، كأنه صور لنفسه قربهم فلحقته لذلك خفة سرته، ثم مثل حاله هذه بحال الإنسان النائم الذي تستخفه لذة الأحلام فيطرب لها، وأخرج التمثيل مخرج المثل السائر، وما أشد انطباق هذا التمثيل لهذا المعنى الممثل له والله أعلم.

وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:

هي اللواحظ أصمتني ولا عجب ... من يعترض للسهام الراميات رمي

ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.

تنبيه - الفرق بين هذا النوع وبين التذييل: خلو التذييل من معنى التشبيه والله أعلم.

[عتاب المرء نفسه]

عاتبت نفسي وقلت الشيب أنذرني ... وأنت يا نفس عنه اليوم في صمم

عتاب المرء نفسه، هو توبيخ النفس على حالة منها غير مرضية.

قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته: هذا النوع أدخله ابن المعتز في البديع، وليس في شيء منه، بل هو حكاية واقعة، ولم يمكني أن أحل بذكره.

وهو كقول المتنبي:

وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل

انتهى. ومن أمثلته في القرآن العظيم، قوله تعالى: (يوم يعضُّ الظالم على يديه يقول يا ليتني - الآيات -) . وقوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله. الآيات) .

ولم يورد ابن المعتز في هذا النوع غير بيتين ذكر أن الأسدي أنشدهما عن الجاحظ وهما:

عصاني قومي في الرشاد الذي به ... أمرت ومن يعص المجرب يندم

فصبرا بني بكر على الموت أنني ... أرى عارضا ينهل بالموت والدم

قال ابن أبي الإصبع - ونعم ما قال -: لم أر في هذين البيتين ما يدل على عتاب المرء نفسه، إلا أن هذا الشاعر لما أمر بالرشاد وبذل النصح، لم يطع على بذل النصيحة لغير أهلها؛ ويلزم من ذلك عتابه لنفسه؛ فتكون دلالة البيتين على عتابه لنفسه دلالة التزامية؛ لا دلالة مطابقة.

فلا يصلح أن يكون شاهدا على هذا النوع إلا قول شاعر الحماسة:

أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر

انتهى كلامه.

ومن بديع هذا النوع قول الشريف الرضي رضي الله عنه:

فوا عجبا مما يظن محمد ... وللظن في بعض المواطن غرار

يقدر أن الملك طوع يمينه ... ومن دون ما يرجو المقدر أقدار

له كل يوم منية وطماعة ... ونبذ قريض بالأماني سيار

لئن هو أعفى للخلافة لمةً ... لها طرر فوق الجبين وأطرار

وأبدى لها وجها نقيا كأنه ... وقد نقشت فيه العوارض دينار

ورام العلى بالشعر والشعر دائبا ... ففي الناس شعر خاملون وشعار

وأني أرى زندا تواتر قدحه ... ويوشك يوما أن تشب له نار

ومنه قول الحيص بيص يخاطب نفسه:

إلام يراك المجد في زي شاعر ... وقد تخلت شوقا فروع المنابر

كتمت بصيت الشعر علما وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر

أما وأبيك الخير أنك فارس ال ... مقال ومحي الدراسات الغوابر

وإنك أغنيت المسامع والنهى ... بقولك عما في بطون الدفاتر

ثم انتقل بعد هذا إلى التكلم بالياء التي هي ضمير المتكلم فقال:

تطاول ليلي فابغني ذا نباهة ... يجلي دجى ظلمائه عن خواطري

سهرت لبرق من ديار ربيعة ... ولم أك للبرق اللموع بساهر

<<  <   >  >>