وحدث أبو الحسن محمد بن علي العلوي الحسني الهمذاني الوصي (ره) قال: كنت واقفا في السماطين بين سيف الدولة بحلب والشعراء ينشدونه، فتقدم إليه عربي رث الهيئة، فاستأذن الحجاب في الإنشاد، فآذنوا له فأنشد:
أنت علي وهذه حلب ... قد نقد الزاد وانتهى الطلب
بهذه تفخر البلاد وبالأمير تزهى على الورى العرب
وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب
فقال سيف الدولة: أحسنت ولله أنت، وأمر له بمائتي دينار.
وحكى الثعالبي في يتيمة الدهر قال: نظر الزعفراني يوما إلى جميع من في دار الصاحب من الخدم والحاشية عليهم الخزور الفاخرة الملونة، فاختزل ناحية وأخذ يكتب شيئا، فسأل الصاحب عنه فقيل: أنه في مجلس كذا يكتب، فقال: علي به، فاستمهل الزعفراني ريثما يتم مكتوبه، فأعجله الصاحب وأمر أن يؤخذ ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني إليه وقال: أيد الله مولانا، أسمعه ممن قاله تزدد به عجبا، فحسن الورد في أغصانه.
فقال هات يا أبا القاسم فأنشدها أبياتا منها:
سواك يعد الغنى ما افتني ... ويأمره الحرص أن يخزنا.
وأنت ابن عباد المرتجى ... تعد نوالك نيل المنى.
وخيرك من باسط كفه ... وممن ثناها قريب الجنى.
غمرت الورى بصنوف الندى ... فأصغر ما ملكوه الغنى.
وغادرت أشعرهم مفحما ... وأشكرهم عجزا الكنا.
أيامن عطاياه تهدي الغنى ... إلى راحتي من نآى أو دنا.
كسوت المحلين والمحرمين ... كسى لم يخل مثلها ممكنا.
وحاشية الدار يمشون في ... ضروب من الخزي إلا أنا.
ولست أذكرني جاريا ... على العهد يحسن أن تحسنا.
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة أن رجلا قال له: أحملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه. وقد أمونا لك بجبة، وقميص، ودراعة، وسراويل، وعمامة، ومنديل؛ ومطرف؛ ورداء، وجورب. ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه. ثم أمر بإدخال الخزانة وصب تلك الخلع عليه، وتسليم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلام.
وبيت بديعية الصفي قوله:
وقد علمت بما في النفس من أرب ... وأنت أكرم من ذكري له بفمي.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
براعة بأن فيها منتهى طلبي ... وأنت أكرم من نطق بلا ولم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن ام أصرح فلم أحتج إلى الكلم.
وبيت بديعية المقري قوله:
قد أصبح المر حالي فالحظوه عسى ... يحلو مذاقا فحالي غير منكتم.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
ومطلبي أنت أولى بالنجاح له ... وأنت أدرى به يا مسبغ النعم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
في النفس ما أنت أولى أن تحيط به ... لكبر قدرك لم ينطق بذاك فمي.
وبيت بديعية الطبري قوله:
ومطلبي أنت أدرى من براعته ... به فحالي منها غير منكتم.
وبيت بديعيتي قولي:
براعتي أبت التصريح في طلبي ... لما رأت من غوادي جودك السجم.
[حسن الختام.]
أحق بحسن ابتدائي ما أنال به ... حسن التخلص يتلو حسن مختتمي.
هذا النوع سماه التيفاشي حسن المطلع، وبعضهم براعة المطلع، وسماه ابن أبي الأصبع حسن الخاتمة وادعى أنه من مستخرجاته، وهو موجود في كتب غيره ممن تقدم بغير هذا الاسم. وهو عبارة عن أن يون أخر الكلام الذي يقف عليه الخطيب أو المسترسل أو الشاعر مستعذبا حسنا، وأحسنه ما أذن بانتهاء الكلام حتى لا يبقى للنفس تشوق إلى ما ورائه.
وهذا رابع المواضع التي نص أئمة البلاغة على التألق فيه، لأنه أخر ما يقرع السمع ويرتسم في النفس، وربما حفظ لقرب العهد به، فإن كان مختارا حسنا تلقاه السمع واستلذه حتى جبر ما وقع فيما سبق من التقصير، كالطعام اللذيذ الذي يتناول بعد الأطعمة التفهة، وإن كان بخلاف ذلك كان على العكس حتى ربما أنسى المحاسن الموردة فيما سبق.