لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وأروت قلب كل ظمى
احتج على ما تقدم من الحكم بأن كفه صلّى الله عليه وآله وسلّم محيطة بالبحر, بأنها لو لم تكن كذلك لما شملت كل إنسان, وأروت كل ظمئ لكنها شملت وأروت, فثبت أنها محيطة به.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ومذهب في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم
وبيت بديعية الطبري قوله:
أليس لولاه ما كنا الخيار ولا ... بمذهب من كلام لاحق ملتزم
وبيت بديعيتي هو قولي:
والله لولا هداه ما اهتدى أحد ... لمذهب من كلام الله ذي الحكم
تقرير الاحتجاج فيه: - أنه لو لم يثبت هداه لما اهتدى أحد لمذهب من كلام الله, لكن اهتدى كثير له ثبت هداه صلّى الله عليه وآله وسلّم, لأنه هو الذي جاء بكلام الله سبحانه.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
هل من ينادي غدا رب النجاة كمن ... به ينادى اشفعن للعرب والعجم
[نفي الشيء بإيجابه]
نفى بإيجابه عنا بسنته ... جهلا نضل به عن وأضح اللقم
لأهل البديع في تفسير هذا النوع عبارتان إحداهما ما فسره به ابن رشيق في العمدة, وهو أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء, وباطنه نفيه, بأني نفي ما هو من سببه كوصفه وهو المنفي في الباطن. والثانية ما فسره به غيره, وهو أن ينفى الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا مبالغة في النفي وتأكيدا له. وسماه بعضهم: نفي الشيء بنفي لازمه.
ومنه قوله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا) أي ليس لهم سؤال فيكونوا ملحفين, فإذن لا سؤال لهم أصلا, أو ليس لهم سؤال في حالة الاضطرار, بناء على أن المضطر من شأنه الإلحاف في السؤال, فانتفاؤه في غيرها بالطريق الأولى, أي لو وجد منهم سؤال لم يكن إلا على ذلك التقدير فأفاد أنهم يشرفون على الهلاك ولا يسألون.
وقوله تعالى: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) الغرض نفي الشفيع رأسا, وإنما ضمت إليه الصفة ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر لا نزاع فيه, وبالغ في تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة.
ومثله قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم ...
ومنه قول أمير المؤمنين علي عليه السلام في صفة مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تنثني فلتانه, أي لا فلتات ولا انثناء.
وقول الشاعر:
لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا أرنب يفزعها هول, ولا ضب ولا انجحار.
وقول امرئ القيس (على لاحب لا يهتدي بمناره) أي لا منار ولا اهتداء.
وقول سويد بن أبي كاهل:
من أناس ليس في أخلاقهم ... عاجل الفحش ولا سوء الجزع
أي لا فحش ولا جزع أصلا.
وقول مسلم بن الوليد بن يزيد بن مزيد:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يسمح عينيه من الكحل
وقصده نفي الطيب والكحل مطلقا, ولذلك قال الممدوح لما أنشده الشاعر هذا البيت لقد حرمتني الطيب والكحل ما بقيت.
حكى مسلم المذكور قال: خلت على الأمير يزيد بن مزيد وهو جالس على كرسي, وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة وبيده هو مرآة ومشط يسرح لحيته, فقال لي: يا مسلم ما الذي أبطأك عنا؟ قلت: قلة ذات اليد أيها الأمير, قال: فأنشدني.
فأنشدته قصيدتي التي أولها:
أجررت حبل خليع في الصبا غزل ... وشمرت همم العذال في عذلي
رد البكاء على العين الطموح هوى ... مفرق بين توديع ومرتحل
أما كفى البين أن أرمى بأسهمه ... حتى رماني بسهم الأعين النجل
فلما صرت إلى قولي منها في مدحه:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
وضع المرآة في غلافها وقال للجارية: انصرفي, فقد حرم علينا مسلم الطيب والكحل.
ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
مراده أنهن لا يدخلن الحمام مطلقا, لأنهن بدويات لا يعرفن الحمام, وإن كان ظاهر الكلام أنهن لا يبرزن من الحمام على تلك الهيئات, والغرض أن حسنهن مستغن عن التصنع والتطرية.
كما قال قبله:
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب