هموم لا تزال تبكى، وعلل الدهر تشكى؛ وأحاديث تقص وتحكى. فإن كنت أعزك الله من النمط الأول ولم تق: (وهل عند رسم دارس من معول) . فقد جنيت الثمر، واستطبت السمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة؛ واخرج على قومك في ثياب الزينة، واستبشر بالوفود، وعرف المسمع عارفة الجود، وتبجح بصلابة العود، وإنجاز الوعود؛ واجن رمان النهود من أغصان القدود، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود. وإن كانت الأخرى فاخف الكمد، وأرض الثمد، وانتظر الأمد؛ واكذب التبسم، واستكتم النسوة، وأفض فيهم الرشوة؛ وتقلد المغالطة وارتكب؛ وجيء على قميصه بدم كذب؛ واستنجد الرحمن؛ واستعن على أمرك بالكتمان.
لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في السراء والضراء.
فلرحمة المتوجعين حزازة ... في القلب مثل شماتة الأعداء.
وانتشق الأرج، وارتقب الفرج، فكم غمام طبق وما همى وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى. واملك بعدها عنان نفسك حتى تمكنك الفرصة؛ وترفع إليك القصة. ولا تسرع إلى عمل لا تفيء منه بتمام، وخذ عن غمام، واللبانات تلين وتجمح؛ والمآرب تدنو وتنزح وتحزن ثم تسمح. وكم من شجاع خام، ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضل الفريق؛ والله عز وجل يجعلها خلة موصولة وشملا أكنافه بالخير مشمولة، وبينة أركانها بركائب اليمن مأهولة، حتى تكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه؛ وتضفو عليه نعم باريه؛ ما طورد قنيص واقتحم عيص، وأدرك مرام عويص، وأعطي زاهد وحرم حريص والسلام.
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله:
أشبعت نفسك من ذمي فهاضك ما ... تلقى وأكثر موت الناس بالتخم.
فقوله: (أكثر موت الناس بالتخم) كناية يهزؤون بها على من يفرط في المآكل اللذيذة ويخص بها نفسه.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلس قوله:
قل للصباح إذا ما لاح نورهم ... إن كان عندك هذا النور فابتسم.
قال ابن حجة: لم أر في هذا البيت هزلا يراد به الجد.
قلت: ومثل هذا ما أنشده رفيقه له في شرح بديعيته المذكورة، وادعى فيه أنه من هذا النوع: تزعم يا بدر مساوتها=ولست أبدي لك تفنيدا.
إن كان ما تزعم عارض لنا ... مقلتها واحك لنا الجيدا.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
هزل أريد به جد عتابك لي ... كما كتمت بياض الشيب بالكتم.
هذا أيضاً لا يظهر فيه شاهد البيت المذكور.
وبيت ابن حجة في بديعيته قوله:
والبين هازلني بالجد حين أرى ... دمعي وقال تبرد أنت بالديم.
أقول: الهزل في هذا البيت ظاهر، ولكن لا حقيقة له، وقد علمت أنه لا بد فيه من الجد؛ وإلا لم يكن من هذا النوع أصلا.
وبيت بديعية الطبري قوله:
أكثرت هزلك جدا لي فحسبك لا ... تكن كهيلة ذات العار في الغنم.
قال في القاموس: هيلة عنزة لامرأة؛ كان من أساء إليها درت له؛ ومن أحسن إليها نطحته؛ ومنه المثل: هيل خير حالبيك تنطحين.
وبيت بديعيتي قولي:
هازلت بالجد عزالي فقلت لهم ... أكثرتم العذل فاخشوا كظة البشم.
الهزل في هذا البيت على حده في بيت الصفي، فإن الكظة بالكسر شيء يعتري من امتلاء الطعام؛ والبشم، هو التخمة، والمراد هنا الجد؛ لأن المقصود منعهم عن كثرة العذل.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
ما أنت يا عاذلي والحب تنكره ... فخص بنا في حدود القول والكلم.
قال ناظمه في شرحه: يقول: ما أنت من رجال الحب، غنما أنت ممن يعرف حدود القول والكلم، فخض بنا فيما أنت من أهله، ودع الحب فله رجال لست منهم. انتهى.
قلت: لم يظهر لي من البيت ولا من شرحه شاهد النوع؛ فإنه لم يزد على أن جعل عاذله عارفا بالعربية، جاهلا بالحب؛ فتأمله.
وبيت بديعية العلوي قوله:
أخاف لومك إن شاهدت نورهم ... يجني عليك فإن السم في الدسم.
قال ناظمه: الشاهد في قولنا: إن السم في الدسم؛ وهي كلمة تخرج مخرج الهزل وهو جد؛ لأن أكثر ما يكون السم في الدسم. انتهى.
قلت قد تقدم أن السم في الدسم من الأمثال؛ وليست من الهزل في شيء؛ على أن إيراده هنا لا معنى له؛ بل هو موهم لذم أحبابه؛ والله أعلم.
[التهكم.]
تهكما قلت للواشين لي بهم ... لقد هديتم لفصل القول الحكم.