وأنا أقول: أما المناسبة اللفظية التامة فيه فظاهرة، وأما المناسبة المعنوية فليست بتامة، لأنه كان ينبغي أن يبتدي بذكر الحلم في أول البيت، لأنه هو أول الكلام المبتدأ به، لا أول الشطر الثاني، فقوله: ابتدأت بها في أول الشطر الثاني مغالطة منه.
وبيت بديعية الطبري قوله:
أكرم به شرفا مناسبا ترفا ... أعظم به شغفا عفوا لمجترم
أما أنا فقد سئمت من الكلام على ضد البديع في هذه البديعية، ومن ذاق من الأدب شيئا لا يخفى عليه مثل ذلك.
وبيت بديعيتي هو قولي:
زاكي النجار علو المجد ناسبه ... زاهي الفخار كريم الجد ذو شمم
أنا لم أقصد في هذا البيت سوى المناسبة اللفظية التامة وهي بين (زاكي) و (زاهي) وبين (النجار) و (الفخار) وبين (علو المجد) و (كريم الجد) وأما المناسبة المعنوية بالمعنى المذكور، فقد أسكنتها في بيت على حده ويتمها تناسب الأطراف كما ستراه، على أن إمكان القول بها في هذا البيت ظاهر، فإن ابتداء الكلام بقولي (زاكي النجار) يناسبه إتمامه بقولي (ذو شمم) لأن النجار هو الأصل، والشمم ارتفاع قصبة الأنف وحسنها واستواء أعلاه، أو هو دليل على كرم الأصل وعراقة النسب، ولذلك يمدح به.
قال حسان:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
وقال كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
وضده الغطس وهو دليل اللؤم وخسة الأصل، ولذلك قال من عكس بيت حسان:
سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... فطس الأنوف من الطراز الآخر
فظهر أن زكاء الأصل يناسبه قولي: ذو شمم فصح في البيت المناسبة المعنوية أيضاً وإن لم تكن مقصودة.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري قوله:
ففي السماحة غيث جاد من ديم ... وفي الحماسة ليث جال في أجم
هذا البيت يشتمل على المناسبة اللفظية التامة والناقصة، فبين قوله (غيث) و (ليث) و (ديم) و (أجم) مناسبة تامة، وبين (السماحة) و (الحماسة) وقوله (جاد) و (جال) مناسبة ناقصة.
[الجمع]
أفضاله ومعاليه ورفعته ... جمع من الفضل فيه غير منقسم
الجمع هو أن يجمع المتكلم بين نوعين فصاعدا في نوع واحد، بأن يعمد إلى شيئين مختلفين مثلا فيثبت لهما جهة جامعة يتحدان بها، كقوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) جمع المال والبنون وهما نوعان متباينان في نوع واحد وهو الزينة، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، أي بأسرها. وحذافير الشيء: نواحيه، جمع حذفار، ومعناه: أن من رزق الأمن من كل بلاء يتقيه، والعافية من كل داء يؤذيه؛ وأعطي بلغة يومه الذي هو فيه، فقد أحاط بما يهمه في الدنيا أطرافه ونواحيه. فجمع هذه الأمور الثلاثة في أنها أصل المقاصد الدنيوية.
ومن أمثلته في الشعر قول أبي العتاهية:
علمت يا مجاشع بن مسعده ... أن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده فجمع أمورا ثلاثة مختلفة تحت نوع واحد وهي المفسدة.
ومثله قولي:
إن المكارم والفضائل والندى ... طبع جبلت عليه غير تطبع
والمجد والشرف المؤمل والعلى ... وقف عليك وليس بالمستودع
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
آراؤه وعطاياه ونقمته ... وعفوه رحمة للناس كلهم
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
قد أحرز السبق والإحسان في نسق ... والعلم والحلم قبل الدرك للحلم
وبيت بديعية الموصلي قوله:
للفصل والفضل والألطاف منه يرى ... والحلم والعلم جمع غير منخرم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
آدابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم
وبيت بديعية الطبري:
كل من الأنس والأملاك مندرج ... والجن تحت لواه يوم جمعهم
وبيت بديعيتي هو قولي:
أفضاله ومعاليه ورفعته ... جمع من الفضل فيه غير منقسم
وبيت بديعية المقري هو قوله:
قضى وولى وفاضت نفسه وعفا ... عدلا وليس بعافي الحكم والحكم