لفظة شكوا مشتركة، فهم أرادوا ضد اليقين، وهو حملها على أنهم أرادوا بها طعنوا.
[التسليم.]
كم ادعوا صدقهم يوما وما صدقوا ... سلمت ذاك فما أرجو بصدقهم.
التسليم- قال بعضهم هو أن يفرض المتكلم حصول أمر قد نفاه، أو فهم استحالته، أو شرط فيه شرطا مستحيلا، ثم يسلم وقوع ذلك بما يدل على عدم فائدته.
وقال الأكثرون: هو أن يفرض المتكلم فرضا محالا منفيا أو مشروطا بحرف الامتناع، ليكون المذكور ممنوع الوقوع لامتناع وقوع شرطه، ثم يسلم وقوعه تسليما جدليا، ويدل على عدم الفائدة لو وقع.
فالأول أعني المحال المنفي كقوله تعالى: (ما تخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) . فإن معنى الكلام ليس مع الله من إله، ولو سلم أن معه سبحانه إلها لزم من ذلك التسليم، ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق، وعلو بعضهم على بعض، فلا يتم في العالم أمر ولا ينفذ حكم ولا تنتظم أحواله. والواقع خلاف ذلك؛ ففرض إلهين فصاعدا محال لمن يلزم منه المحال.
وهذا القسم هو الذي بنى عليه أرباب البديعيات أبياتهم، لكن ما فرضوه محال ادعاء وليس بمحال حقيقة كما ستراه.
والثاني اعني المشروط بحرف الامتناع مثلوا له بقول الطرماح:
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد.
وهو ليس بكامل الشروط إذ ليس فيه التسليم الجدلي، إنما هو مشروط بحرف الامتناع لا غير. وذكر ابن أبي الأصبع: أن التسليم فيه مقدر؛ وتكلف في تقديره.
وقد نظمت له أنا أمثالا مستوفيا لشروط فقلت:
هم كدروا صفو الوداد وأقبلوا ... يرومون من قلبي البقاء على الود.
يقولون لو تصفو صفونا وهبهم ... وفوا لي بما قالوا فماذا الذي يجدي.
ألم يسمعوا قول الوشاة وجاهروا ... على غير ذنب بالقطيعة والصد.
المثال في البيت الثاني فإنه مشروط بحرف الامتناع وفيه التسليم الجدلي والدلالة على عدم الفائدة، على حد ما ذكروه في التعريف.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
سألت في الحب عذالي فما نصحوا ... وهبه كان فما نفعي بنصحهم.
وهذا من قسم المنفي كما سبقت الإشارة إليه.
وسقط هذا النوع من بديعية ابن حجة وشرحها في النسخ التي حضرتني، وبسقوطه تعذر هنا إيراد بيتي بديعيتي الموصلي، وابن جابر فإنني لم أقف عليهما إلا من شرح بديعية ابن حجة، ولعل الله يظفر بهما فيما بعد؛ فيثبتان مع مشيئة الله تعالى.
وبيت بديعية الطبري قوله:
لم يجد لي عذالهم نفعا أسلمه ... وهبه أجدى فماذا لي بنفعهم.
وبيت بديعيتي هو قولي:
كم أدعوا صدقهم يوما وما صدقوا ... سلمت ذاك فما أرجو بصدقهم.
وبيت بديعية إسماعيل المقري قوله:
لم يلق أذنا على أذني ملامك لي ... وهبه يلقى فلي قلب أصم عمي.
[الاقتباس.]
قالوا سمعنا وهم لا يسمعون وقد ... أوروا بجنبي نارا باقتباسهم.
الاقتباس في اللغة: مصدر اقتبس إذا أخذ من معظم النار شيئا، وذلك المأخوذ قبس بالتحريك، وفي الاصطلاح هو تضمين النظم أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه، بأن لا يقال فيه: قال الله أو نحوه، فإن ذلك حين إذا لا يكون اقتباسا.
قال الحافظ السيوطي: وقد اشتهر عن المالكية تحريمه وتشديد النكير على فاعله. وأما أهل مذهبنا- يعني الشافعية- فلم يتعرض له المتقدمون ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس في أعصارهم، واستعمال الشعراء له قديما وحديثا، وقد تعرض له جماعة من المتأخرين، فسئل عنه الشيخ عز الدين بن عبد السلام فأجازه، واستدل بما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله في الصلاة وغيرها: وجهت وجهي إلى آخره، وقوله: اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني ديني واغنني من الفقر. وفي سياق كلام أبي بكر: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وفي آخر حديث لابن عمر: قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. انتهى.
وهذا كله إنما يدل على جوازه في مقام المواعظ والثناء والدعاء وفي النثر، ولا دلالة فيه على جوازه في الشعر وبينهما فرق.