للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فإن القاضي أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه في الشعرمكروه وفي النثر جائز، واستعمله أيضاً في النثر القاضي عياض في مواضع من خطبة الشفاء.

وقال الشرف إسماعيل المقري صاحب مختصر الروضة وغيره في شرح بديعيته: فما كان منه في الخطب والمواعظ ومدحه صلى الله عليه وآله وسلم فهو مقبول وغيره مردود.

وفي شرح بديعية الشيخ صفي الدين الحلي: الاقتباس ثلاثة أقسام محمود مقبول، ومباح مبذول، ومردود مرذول.

فالأول-ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي وآله عليهم السلام ونحو ذلك.

والثاني-ما كان في الغزل والصفات والقصص والرسائل ونحوها.

والثالث- على ضربين: أحدهما ما نسبه الله تعالى إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية من عماله: "إن إلينا إيابهم ثن إن علينا حسابهم" والآخر تضمين آية كريمة في معرض هزل أو سخف، ونعوذ بالله من ذلك، كقول أحد العصرين:

قالت وقد أعرضت عن غشيانها ... يا جاهلا في حمقه يتناهى.

إن كان لا يرضيك قبلي قبلة ... لأولينك قبلة ترضاها.

انتهى. قال السيوطي: وهذا التقسيم حسن جدا وبه أقول.

وقال الشيخ بهاء الدين السبكي في عروس الأفراح: الورع اجتناب ذلك كله، وأن ينزه عن مثله كلام الله ورسوله، لاسيما إذ أخذ شيء من القرآن وجعل بيتا مصرعا، فإن ذلك ما لا يناسب المتقين، كقوله:

كتب المحبوب سطرا ... في كتاب الله موزون.

لن تنالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبون.

وبقي هنا فوائد: الأولى- الصحيح أن المقتبس ليس بقرآن حقيقة بل كلام يماثله، بدليل جواز النقل عن معناه الأصلي، وتغيير يسير كما سيأتي. وذلك في القرآن كفر، وهذا سر قول أصحابنا: لو قرأ الجنب الفاتحة على قصد الثناء جاز، قاله السيرافي. وقال في العروس: المراد بتضمين شيء من القرآن في الاقتباس، أن يذكر كلام وجد نظمه في القرآن؛ أو السنة، مرادا به غير القرآن، فلو أخذ به القرآن كان ذلك من أقبح القبائح، ومن عظائم المعاصي نعوذ بالله منه.

الثانية- الاقتباس على ضربين: ضرب لا ينقل المقتبس فيه عن معناه الأصلي، كقول بعض العصرين- وقد طلب من بعض أصحابه الذين بمكة حبا فاعتذر منه-: -

طلبنا منكم حبا ... أجبتم فيه بالمنع.

عذرناكم لأنكم ... بواد غير ذي زرع.

فإن المراد به مكة المشرفة، وكذلك هو في الآية الشريفة. وضرب ينقل عن معناه الأصلي بناء على أنه ليس بقرآن حقيقة كما مر.

وكقول ابن الرومي:

لئن أخطأت في مدحك ... ما أخطأت في منعي.

لقد أنزلت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع.

فإنه كنى به عن الرجل الذي لا نفع لديه، والمراد به في الآية الشريفة مكة شرفها الله تعالى كما تقدم.

الثالثة-جوزوا تغير لفظ المقتبس بزيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير؛ أو إبدال الظاهر من المضمر، أو نحو ذلك بناء على ما هو الصحيح من أن المراد به غير القرآن كما تقدم.

ومثاله قول أبي تمام في مطلع قصيدة يرثي ابنا له، فيما رواه أبو بكر الصولي عن أبى سليمان النابلسي:

كان الذي خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا.

أمسى المرجى أبو علي ... موسدا في الثرى يمينا.

حين استوى وانتهى شبابا ... وحقق الرأي والظنونا.

كنت عزيزا به كثيرا ... وكنت صبا به ضنينا.

دافعت إلا المنون عنه ... والمرء لا يدفع المنونا.

وهي قصيدة طويلة، فقوله: إنا إلى الله راجعونا؛ اقتباس لكنه زاد الألف في راجعون على جهة الإشباع، وأتى بالظاهر مكان المضمر في قوله: إنا لله وإن إليه؛ ومراده آية الاسترجاع وهي قوله: "إنا لله وإن إليه راجعون".

قال في عروس الأفراح: وفي تسمية هذا البيت اقتباسا نظر، لأن في هذا اللفظ ليس في الأصل من القرآن. وتعقبه ابن جماعة بأنه اقتباس بالنظر إلى الأصل الذي هذا مغايره، فهو بالنظر إلى هذا، وما المانع من ملاحظة مثل هذا في التسمية. انتهى.

<<  <   >  >>