وعقل الناقة: شد وظيفها إلى ذراعها، والخطاب للحادي به أو رفيقه. يقول: دعني وزهوي. أي تيهي وفخري بهم، وأقم بي آثار ديارهم، ودع الجهل المركب - يعني جهله - بحقيقة حاله أو حالهم، وادعاه معرفته لها. كأنه عذله على تيهه بهم، فخاطبه بهذا القول، واعقل هنالك مطلق الأينق الرسم، فلا تتجاوزه، فإنه محط الرحال، ومطمح نظر الآمال.
والشيخ إسماعيل المقري لم يذكر الجناس المطلق أيضاً، وذكر الجناس المركب في المطلع في موضعين وقد تقدم ذكره.
[الجناس الملفق]
بانوا فهان دمي عندي فها ندمي ... على ملفق صبري بعد بعدهم
من أنواع الجناس: الجناس الملفق وهو ألطفها موقعاً في القلوب وأحلاها ذوقاً في الأسماع وأصعبها مسلكاً. وحده أن يكون كل من ركنيه مركباً من كلمتين فصاعداً. وهذا هو الفرق بينه وبين المركب، وقل من أفراده عنه إلا المحققين كالحاتمي وابن رشيق وأمثالهما. ومن أمثلته في الشعر، قول الحاكم المطوعي:
أرى مجلس السلطان تفضى عفاته ... إلى روض مجد بالسماح مجود
وكم لجباه الراغبين لديه من ... مجال سجود في مجالس جود
وكان الصلاح الصفدي مولعا بهذا النمط منه، فنظم فيه شيئاً كثيراً، وجاء بالغث أكثر من السمين. فمن ذلك قوله:
ولما نأيتم لم أزل مترقبا ... قدومكم في غدوة ومساء
وأين إذا كان الفراق معاندي ... مطالع ناءٍ من مطال عناء
وقوله:
وساق غدا يسقي بكأس وطرفه ... يجرد أسيافاً لغير كفاح
إذا جرح العشاق قالوا أقمت في ... مدارج راحٍ أم مدار جراح
وقوله:
بكيت على نفسي لنوح حمائم ... وجدت لها عندي هدية هاد
تنوب إذا ناحت على الأيك في الدجى ... مناب رشاد في منابر شاد
وقوله:
متى تصنع المعروف ترق إلى العلى ... وتلق سعوداً في ازدياد سعود
وإن تغرس الإحسان تجن الثمار من ... مغار سعود لا مغارس عود
وقوله:
ومجلس أقوام تطوف عليهم ... كؤوس الحميا في مدار سعود
تجادلت الأوتار في جنباته ... فأضحى الندامى في مدارس عود
وقوله:
ومن على غيري سقام وصحة ... ولم ير قان مثل ذي يرقان
قال ابن حجة: رأيت بخط الشيخ بدر الدين البشتكي تحت هذا البيت: وإن من ذلك مبلغه من النظم لجدير أن يقعد مع صغار المتأدبين. انتهى.
قلت: نعم من كان هذا مبلغه من النظم فهو جدير بما قال. وأما الشيخ صلاح الدين، فمحاسن نظمه لا تخفى؛ وشمعة أدبه كالصبح لا تقط ولا تطفي، وكم له من نثر وشعرهما من سحر البيان، أو بيان السحر، ولا يلزم من ركة هذا المقدار من نظمه انحطاط مقدار الناظم. وابن حجة لم يزل يتحامل عليه، ويشير بالنقص إليه. ولئن قال البدر البشتكي في الصفدي ما قال، فقد قال في ابن حجة أيضاً لما شاب وصبغ لحيته بالحناء أشنع مقال وهو قوله:
صقيع دعاويه لا تنتهي ... ويخطي الصواب ولا يشعر
تأملت فيه وفي ذقنه ... فلم أدر أيهما احمر
وأحسن ما نظمه الشيخ صلاح الدين في هذا الباب قوله:
رعى الله عهداً مضى بالحمى ... بلغت الأماني به في أمان
وأيام أنسٍ تقضت بكم ... كأحلام عان بأحلى معان
ولعزة وقوع هذا النوع سومح فيه باختلاف الحركات. ومن أحسن ما وقع منه قول القاضي عبد الباقي بن أبي حصين وقد ولي القضاء بالمعرة وهو ابن عشرين، وأقام في مدة خمس سنين:
وليت الحكم خمساً وهي خمسٌ ... لعمري والصبا في العنفوان
فلم تضع الأعادي قدر شاني ... ولا قالوا فلان قد رشاني
قلت: هكذا عزا ابن حجة هذين البيتين للقاضي عبد الباقي المذكور والله أعلم لمن هما. وقوله (وهي خمس) بضم الخاء، أي خمس عمره يشير إلى أن عمره في ذلك الوقت خمس وعشرون سنة.
وأكثر أصحاب البديعيات عيال علي أبي الفتح البستي في قوله في هذا النوع:
إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي
فلم أنفك من ندمي ... وليس بنافع ندمي
ومنه قوله أيضاً:
أنت الأمير وإن لم تؤت منشوراً ... والملك بعدك أن لم تؤتمن شورى
وقوله أيضاً:
قد مر أمس ولم يعبأ به أحد ... من التواء ببؤس مر أم رغد
وعندي اليوم قوت استعف به ... وإن بقيت غدا أصلحت أمر غدِ