للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أقول: قول أبي الإصبع: إن هذا النوع من مخترعاته، إن أراد أول من عده من أنواع البديع وذكره في كتابه فمسلم، وإن أراد أنه أول من اخترعه وسماه بهذا الاسم فليس بصحيح، فإن كتب المتقدمين في علم البيان لا يكاد يخلو كتاب منها من هذا النوع، لكنهم يذكرونه في بحث الاستعارة عند ذكر الاستعارة التهكمية، وهذا جار الله الزمخشري، أقدم من ابن الإصبع بمائة سنت، نص على هذا النوع باسمه في كشافه، فقال في تأويل قوله تعالى: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" تهكم، فإن المعقباب هم الحرس من حول السلطان، يحفظونه بزعمه من أمر الله، على سبيل التهكم فإنهم لا يحفظونه إذا جاء، والله أعلم. ولا أظن أن ابن الإصبع أراد بقوله أنه من مخترعاته إلا ما ذكرناه أولا، فإن مثله لا يخفى عليه هذا المقدار وإنما نبهنا على ذلك لئلا يتوهم من كلامه أنه من مخترعاته بالمعنى الثاني والله أعلم. وقول ابن أبي حجة: فكان أبا عذرته، فيه غلط لفظي، فإن العذرة إذا أضيفت حذفت تاؤها إجماعا، فيقال: أبو عذرها، كما يقال: ليت شعري، وأقام الصلاة.

قال بعضهم:

ثلاثة تحذف تاءآتها ... مضافة عند جميع النحاة.

منها إذا قيل أبو عذرها ... وليت شعري وأقام الصلاة.

ولا يحتمل أن يكون الغلط من الناسخ، لأن السجعة في القرينة الثانية وهي قوله: فارس حلبته، ينتفي معها هذا الاحتمال.

الثاني-الفرق بين هذا النوع، وبين النوع الذي قبله، هو الهزل الذي يراد به الجد، إن هذا ظاهره جد، وباطنه هزل، وذاك بالعكس. والفرق بينه وبين الهجاء في معرض المدح، فإن ظاهره لا يدل إلا على المدح، حتى يقترن به ما يفهم أن المقصود الهجو، وهذا الفرق أحسن من غيره، فإنه أوفى بالمراد.

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:

محضت لي النصح إحسانا إلي بلا ... غش وقلدتني الأنعام فاحتكم.

قال ابن حجة: لم يظهر لي من هذا البيت غير صريح المدح والشكر، ولم أجد فيه لفظة تدل على الحقارة والاستهزاء، ولا على الوعد في موضع الوعيد، ولم يشر في بيته إلى نوع من هذه الأنواع. انتهى.

أقول: قد عدوا من التهكم قوله تعالى- حكاية عن قوم شعيب مخاطبين له- "إنك لأنت الحليم الرشيد" وظاهره أنه ليس في هذا لفظة تدل على الحقارة، وإنما أفهم التهكم المقام، وكذا بيت الصفي الحلي؛ فإنه خطاب للعاذل؛ والعاشق لا يخاطب عاذله بمثل هذه الألفاظ إلا متهكما مستهزئا به فاعلم.

وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:

لقد تهكمت فيما قد منحتك من ... قولي بأنك ذو عز وذو كرم.

وابن جابر الأندلسي لم ينظم هذا النوع في بديعيته.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

ذل العذول بهم وجدا فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم.

قال ناظمه في شرحه: فخاطب العذول هنا بلفظ العز والشمم، بعد قولنا: ذل؛ ووقوف العاذل في موقف المذلة؛ هو التهكم بعينه. انتهى.

أقول: لا يخفى أن التهكم إنما هو الكلام الذي يواجه به المتهكم عليه ويخاطب، والكلام الذي تهكم به ابن حجة على عاذله، وخاطبه به هو قوله: (أنت ذو عز ذو شمم) فقط، وأما سائر البيت، فحكاية حال، وإخبار بأنه إنما خاطبه بذلك حال ذله؛ وليس البيت كله خطابا للعاذل، فالسامع له حال مخاطبته لعاذله: بأنك ذو عز وذو شمم، لا يظهر له غير صريح المدح لكنه يفهم من المقال أن هذا استهزاء به، وليس في اللفظ ما يشير إلى انه تهكم. فقد وقع فيما انتقد به على الصفي بعينه، فتأمله فإنه نقد دقيق.

وبيت الطبري تقدم إنشاده في نوع الإبهام، فإنه جمع بينه وبين التهكم في بيت واحد، على أنه أخذ مصراع التهكم من بيت ابن حجة فقال:

أذقت إبهام ما يرضي الفؤاد فسد ... تهكما أنت ذو عز وذو عظم.

وبيت بديعيتي قولي:

تهكما قلت للواشين لي بهم ... لقد هديتم لفصل القول والحكم.

فخاطب الواشين هو عين التهكم.

وبيت بديعية شرف الدين إسماعيل المقري قوله:

بالغت في النصح لا شك يداك فزد ... فكلما زدت نصحا زدت في التهم.

[القول بالموجب.]

قالوا وقد زخرفوا قولا بموجبه ... فهمت قلت هيام الصب ذي اللمم.

<<  <   >  >>