للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نفحات غلو هذا البيت أخجلت نفحات الغالية, ونشر شذاه عطر مسام الأرواح حتى كاد يحيي الرمم البالية, مع تمام الانسجام والرقة, وتمكن القافية. ولا شك أنه من البيوت التي أذن الله أن ترفع بمديح نبيه المصطفى ذي المقام الأرفع صلى الله عليه وآله الكرام, وأصحابه العظام.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

بلا غلو إلى السبع الطباق سرى ... وعاد والليل لم يحفل بصحبهم

غالى ابن حجة في الإعجاب بغلو هذا البيت, وظن أنه لا يتحكم عليه لو, (ولا, وليت) , والذي أقوله: إنه إنما نظم أمرا واقعا لا غلو فيه, إلا لو لم يقع, وأما بعد وقوعه فادعاء استحالته عقلا وعادة كما هو معنى الغلو قد يكون كفرا - نعوذ بالله من ذلك - فإنه صلى الله عليه وآله وسلم سرى إلى السماوات السبع ليلة الإسراء, ودوخ طباقها, وعاد قبل طلوع الفجر, لاشك في ذلك. فتسمية هذا غلوا فيه مالا يخفى.

وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

بلا غلو لو الدهر استجار به ... من الفنا لم يكن يوما بمنعدم

هذا أيضاً من الغلو المقبول في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وبيت بديعيتي هو قولي:

ولا غلو إذا ما قلت عزمته ... تكاد تثني عهود الأعصر القدم

دعوى إعادة عهود الأزمان الماضية مما يستحيل عقلا وعادة, إلا أن فعل التقريب وهو (تكاد) قرب ذلك من الصحة, وأخرجه عن الاستحالة, فهو من الغلو المقبول, على أنه لا غلو في ذلك كما أشرنا إليه في نفس البيت, لكونه في مديحه صلى الله عليه وآله وسلم.

وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:

عريض جاه لو أن الدهر طال مدى ... كجاهه آمن الدنيا من العدم

[التفريق]

قاسوه بالبحر والتفريق متضح ... أين الأجاج من المستعذب الشبم

التفريق في اللغة ضد الجمع لا الاجتماع كما وهم ابن حجة, وضد الاجتماع إنما هو الافتراق لا التفريق. وفي اصطلاح البديعيين هو إيقاع تباين أمرين من نوع واحد في المدح أو غيره.

كقول الشاعر:

قاسوك بالغصن في الثني ... قياس جهل بلا أنتصاف

هذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف

وقول رشيد الدين الوطواط:

ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء

فنوال الأمير بدرة عين ... ونوال الغمام قطرة ماء

وقد تلاعب الشعراء بمعنى هذين البيتين كثيرا, فللوأواء الدمشقي:

من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شكلين

أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين

ولبعضهم فيه:

من قاس جدواك يوما ... بالسحب أخطأ مدحك

السحب تعطي وتبكي ... وأنت تعطي وتضحك

وللأديب يعقوب النيسابوري:

رأيت عبيد الله يضحك معطيا ... ويبكي أخوه الغيث عند عطائه

وكم بين ضحاك يجود بماله ... وآخر بكاء يجود بمائه

ولأبي الفتح البستي:

يا سيد الأمراء يا من جوده ... أوفى على الغيث المطير إذا همى

الغيث يعطي بالحيا متجهما ... ونداك يعطي بالجدا متبسما

ولشرف الدين النجاري:

ما قست بالغيث العطايا منك إذ ... يبكي وتضحك إذ توالي للندى

وإذا أفاض على البرية جوده ... ماء تفيض لنا غيوثك عسجدا

وقلت أنا في ذلك:

من قاس جدوى راحتيك إذا همت ... بالغيث أخطأ في القياس وما درى

إذ أنت تعطي ضاحكا مستبشر ... والغيث يعطي باكيا مستعبرا

وقلت أيضاً:

من قاس جدوى يديك يوما ... بالغيث ما بر في امتداحك

الغيث ينهل وهو باك ... وأنت تعطي وأنت ضاحك

وما أبدع قول البديع الهمداني من قصيدته المقدم ذكرها:

وكاد يحيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا

والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر ولو عذبا

وما زلت معجبا بقول ابن اللبانة في المعتمد بن عباد:

سألت أخاه البحر عنه فقال لي ... شقيقي إلا أنه البارد العذب

لنا ديمتا مال وماء فديمتي ... تماسك أحيانا وديمته سكب

إذا نشأت برية فله الندى ... وإن نشأت بحرية فله السحب

وقال أبو العلاء المعري:

<<  <   >  >>