للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الثاني - أن قوله: فرق بينهما الصفي وغيره بفروق لا تكاد تظهر، غير مسلم، بل الفرق مثل الصبح ظاهر. أما على مذهب السكاكي ومن وافقه، من أن التوجيه هو إيراد الكلام محتملا لمعنيين مختلفين، فالفرق بينه وبين التورية: أن التوجيه يلتزم فيه أن يكون المعنيان متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر، بخلاف التورية فإنه يلتزم فيها تضاد المعنيين، ولا عدم تمييز أحدهما عن الآخر كما سيأتي في بابها. وأما على مذهب الشيخ صفي الدين من أنه - أعني التوجيه - تأليف المتكلم مفردات بعض كلامه وجمله وتوجيهها إلى أسماء متلائمة من أسماء الأعلام، أو قواعد علوم، أو غيرها، فالفرق بينه وبين التورية من وجهين: أحدهما أن التورية تكون باللفظ المشترك، والتوجيه باللفظ المصطلح. والثاني أن التورية تكون باللفظ الواحد، والتوجيه لا يصح إلا بعدة ألفاظ متلائمة. فظهر الفرق بينهما، ودعوى عدم ظهوره تعنت.

الثالث - أن تخصيصه التوجيه بما يحتاج إلى ألفاظ قبلها ترشح الكلام للتورية هو بعينه التورية المرشحة، ولا يؤثر عن أحد تسميتها بالتوجيه فهو اصطلاح جديد، إذا اختاره لنفسه فلا مشاحة في الإصلاح.

[التمثيل]

طربت في البعد من تمثيل قربهم والمرء قد تزدهيه لذة الحلم

التمثيل - قالوا هو تشبيه حال بحال على سبيل الكناية، وذلك أن تقصد الإشارة إلى معنى فتوضع ألفاظ على معنى آخر، ويكون ذلك المعنى لا تكون لو ذكر بلفظ الخاص، وذلك لما يحصل للسامع من زيادة التصور. لأنه إذا صور في نفسه مثال ما خوطب به كان أسرع إلى الرغبة عنه، والرغبة فيه.

ومثاله قوله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) فإنه مثل الاغتياب بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله لحم الأخ، ثم لم يقتصر عليه حتى جعله ميتا، ثم جعل ما هو في غاية الكراهية موصولا بأخيه، ففيه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة المعنى الذي وردت لأجله.

أما تمثيل الاغتياب بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله فشديد المناسبة جدا، لأن الاغتياب إنما هو ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم. وأما قوله (لحم أخيه) فلما في الاغتياب من الكراهية لأن العقل والشرع قد أجمعا على استكراهه، وأمرا بتركه، والبعد عنه. وأما قوله (ميتا) فلأجل أن المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحس بها.

ومن أمثلته في السنة الشريفة قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لرجل رآه ينهك نفسه في العبادة (إن هذا الدين لمتين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى) .

فمثل عليه السلام حال من يعسف نفسه فينهك جسمه في العبادة بحال المنبت، وهو الرجل المنقطع عن أصحابه، فيعسف راحلته في السير في لحاقهم فتعيا راحلته ولا يبلغ رفقته. وأخرج التمثيل مخرج المثل السائر، وهو من أحسن أنواعه.

ومنها أيضاً قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث أم زرع حكاية عن المرأة الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا برد ولا وخامة ولا سآمة. فإنها أرادت وصفه بحسن العشرة مع نسائه، فعدلت عن لفظ المعنى الموضوع له إلى لفظ التمثيل لما فيه من الزيادة، وذلك تمثيلها الممدوح بليل تهامة (الذي) وصفته بأنه معتدل، فتضمن ذلك وصف الممدوح باعتدال المزاج المستلزم حسن الخلق وكمال العقل، اللذين ينتجان لين الجانب وطيب المعاشرة. وخصت الليل بالذكر لما فيه من راحة الحيوان - وخصوصا الإنسان - لأنه يستريح من الكد والتعب اللذين يحصلان بالتردد في النهار لكون الليل جعل سكنا، والسكن: ما يسكن إليه، لاسيما وقد جعلته ليلا معتدلا بين الحر والبرد، والطول والقصر. فهذه صفة ليل تهامة، لأن الليل يبرد بالنسبة إلى النهار مطلقا، لغيبوبة الشمس وخلوص الهواء من اكتساب الحر، فيكون في البلاد الباردة شديد البرد وفي البلاد الحارة معتدل البرد مستطابه، فلهذا قالت: زوجي مثل ليل تهامة، وحذفت أداة التمثيل لتقرب المشبه به، وهذا مما يبين لك لفظ التمثيل في كونه لا يجيء إلا مقدرا بمثل غالبا.

<<  <   >  >>