وأعظم من عفا عن قدرة, رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فإن أهل مكة كانوا يؤذونه في نفسه, ويقصدون نكايته في أهله, قتلوا أعمامه, وعذبوا أصحابه, وألبوا عليه, وأخرجوه من أحب البقاع إليه, حتى إذا فتحها الله عليه, ودخلها بغير حمدهم, وظهرت بها كلمته على رغمهم, قام فيهم خطيبا, فحمد الله وشكره على ما منحه من الظفر, ثم قال: أقول لكم كما قال أخي يوسف (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) .
وقرنت بين العز والانتقام مع صحة مقارنته بالاقتدار كما مر, لما بين العز والانتقام من الملائمة عند أهله, كما قال أبو الطيب المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
ولك أن تجعل المقارنة الأولى من النوع الثاني, والثانية من النوع الأول, لأن في الملائمة بين العز والانتقام نوع دقة, والله أعلم.
وبيت بديعة المقري قوله:
فرد المطالب لاثان لعزمته ... شفع الرغائب دون الوتر لم ينم
قال في شرحه يمكن أن يقال في هذا البيت:
شفع الرغائب لا ثان لعزمته ... فرد المطالب دون الوتر لم ينم
ولكن اخترنا الترتيب الأول لما فيه من التورية والترشيح, ومقابلة الشفع بالوتر. أما التورية فهي في قوله (لاثان لعزمته) أي لا شيء يرد عزمته, وقوله (فرد المطالب) رشحت (لاثان) للتورية, وصلحت لها. فيقول: لاثان لعزمته بل هي وحيدة. وقوله (شفع الرغائب) فيه تورية أيضاً, فإن الرغائب نوع من الصلاة معروف يسمى شفعا, والمراد بالرغائب العطايا, وإنها ليست ترد أفرادا بل أشفاعاً. وفي قوله (دون الوتر لم ينم) المراد به الذحل, ولكن ذكر الشفع قبله رشحه لصلاة الوتر, ولذلك ذكر النوم بعده وصلح له أيضاً, فأفهم ذلك. انتهى بنصه.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فرد النظير فمن والاه في نعم ... زوج المعالي فمن عاداه في نقم
قال في شرحه: كان يصح أن يقول:
فرد النظير فمن عاداه في نقم ... زوج المعالي فمن والاه في نعم
فلا يختل معناه, إلا أن تقديم الموالاة والنعم أولى من تقديم المعاداة والنقم.
[المبالغة]
كل البليغ وقد أطرى مبالغة ... عن حصر بعض الذي أولى من النعم
اختلف أرباب البديع في عد المبالغة من المحسنات في الكلام, فذهب قوم إلى أنها مردودة مطلقا, لا تعد من المحسنات أصلا, وأن خير الكلام ما خرج مخرج الحق, وجاء على منهج الصدق.
كما يشهد له قول حسان بن ثابت:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المسامع أن كيس وأن حمقا
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وذهب آخرون إلى أنها مقبولة مطلقا, بل الفضل مقصور عليها, لأن أحسن الشعر أكذبه, وخير الكلام ما بولغ فيه. ومن فقراتهم المستعذبة قولهم في الشعر (أعذبه أكذبه) . ولهذا استدرك النابغة على حسان قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
حيث استعمل جمع القلة - أعني الجفنات والأسياف - وذكر وقت الضحوة وهو وقت تناول الطعام, وقال: يقطرون دون يسلن, ويفضن, أو نحو ذلك. ويروى هذا الاستدراك للخنساء بحضرة النابغة على وجه أتم من هذا.
ذكروا أن النابغة الذبياني كان يجلس للشعراء في سوق عكاظ وينشدونه فيفضل من يرى تفضيله.
وأنشدته الخنساء في بعض المواسم قصيدتها التي مطلعها:
قذى بعينيك أم بالعين عوار ... أم أوحشت إذ خلت ن أهلها الدار
فأعجبه شعرها فقال: والله لولا أن هذا الأعمى - يعني الأعشى - أنشدني قبلك لفضلتك على شعراء هذا الموسم. وفي رواية, لقلت: أنك أشعر الجن والأنس, وقيل: قال لها: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك, فقالت: وذا خصية يا أبا أمامة, فقال: وذا خصية. وكان ممن عرض شعره في ذلك الموسم حسان بن ثابت, فغضب وقال: انا أشعر منك ومنها, فقال: ليس الأمر كما ظننت, ثم ألتفت الخنساء فقال: يا خناس خاطبيه, فالتفتت إليه فقالت: ما أجود بيت في قصيدتك التي عرضتها آنفا؟ قال: قولي:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما