للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا بيت معمور بالحسن لفظا ومعنى. قال ناظمه في شرحه: قوله: ما في عذولي بأس، تورية ظاهرها أنه لا بأس فيه، أي لا عيب، والمراد: لا قوة فيه ولا شجاعة، وهذا من باب الإبهام. وقوله: تغضي احتمالا، يصفهم بالذل وإن كان ظاهره أنهم حلماء. وقوله: تشفي الكلم بالكلم، أي أنهم يشفون غيظهم بالكلام، كما قال الشاعر: (أشبعتهم سبا وراحوا بالإبل) وإن كان ظاهره أن كلامهم يقوم مقام الدواء للجراحات. انتهى.

[الاكتفاء]

لم يكتفوا بي عميدا في محبتهم ... بل كل ذي نظر فيهم أراه عمي (دا)

الاكتفاء - ضرب من الإيجاز، وهو نوعان: نوع يكون بكلمة فأكثر ونوع يكون ببعض كلمة.

فالأول هو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط، فيكتفي بأحدهما عن الآخر لنكتة، ولا يكون المكتفى عنه إلا آخرا لدلالة الأول عليه. وذلك الارتباط قد يكون بالعطف وهو الغالب، وأعظم شواهده قوله تعالى: (سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد، وخص الحر بالذكر لأن الخطاب للعرب وبلادهم حارة، والوقاية عندهم من الحر أهم، لأنه أشد عندهم من البرد. وقوله تعالى: (وله ما سكن بالليل والنهار) أي وما تحرك، وخص السكون بالذكر لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد، ولأن كل متحرك يصير إلى السكون.

وقد يكون بالشرط وجوابه، كقوله تعالى: (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء) أي فافعل. وقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون) أي أعرضوا، بدليل ما بعده، وقوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) أي لرأيت أمرا فظيعا، وقوله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم) أي لسلطكم على أهل مكة.

وقد يكون بالقسم بدأ به، كقوله تعالى: (والنازعات غرقا - الآيات _) أي لتبعثن، وقوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر) أي أنه لمعجز.

وقد يكون بطلب الفعل للمتعلق، كقوله تعالى: (خلطوا عملا صالحا) أي بسيئ (وآخر سيئا) أي بصالح. أو بطلبه للمفعول كقوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل) أي إلها (وقوله تعالى) : (كلا سوف تعلمون) أي عاقبة أمركم.

وقد يكون بطلب حرف الشرط لجملة الشرط وجوابه كقوله:

قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدا قالت وإن

أي وإن كان كذلك رضيته أيضاً. وفي الخبر، أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها وإن، أي وإن كانت بدنة اركبها.

وقد يكون بالاسمية والخبرية لأن وأمثالها، كما روي أن المهاجرين قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الأنصار قد فضلونا وفعلوا بنا كذا وكذا، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألستم تعرفون ذلك؟ قالوا: بلى، قال: فإن ذاك. قال أبو عبيدة: إن الحديث ليس فيه أكثر من قوله: فإن ذاك، ومعناه: فإن ذاك مكافأة، أي معرفتكم إحسانهم مكافأة لهم.

وقول الشاعر:

ويقلن شبي قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنه

على قول ابن هشام (إنه) يجوز أن لا تكون الهاء للسكت، بل اسما لأن، على أنها المؤكدة والخبر محذوف، أي أنه كذلك. وقد يكون بغير ذلك من وجوه الارتباط كما يظهر من الأمثلة الآتية في النظم.

وقد حد الشيخ صفي الدين الحلي الاكتفاء في النظم بقوله: هو أن يأتي الشاعر ببيت من الشعر وقافيته متعلقة بمحذوف تقاضى ذكره ليفهم به المعنى، فلا يذكره لدلالة ما في لفظ البيت عليه، ويكتفي بما هو معلوم في الذهن فيما يقتضي تمام المعنى.

كقوله:

لا أنثني لا أنتهي لا أرعوي ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا

فمن المعلوم أن تمامه: ولا إذا مت، ومتى ذكر تمامه في البيت الثاني كان عيبا من عيوب الشعر، يسمى في علم القوافي بالتضمين. انتهى. وهذا الحد شامل لنوعي الاكتفاء، غير أنه لا يشمل الاكتفاء في النثر كما هو ظاهر، والحد الذي ذكرناه شامل للنظم والنثر معا.

وأما النوع الثاني فسيأتي الكلام عليه، وهذا محل إثبات محاسن الأمثلة الشعرية لهذا النوع الأول من الاكتفاء: فمنه قول هبة الله بن سناء الملك في مطلع قصيدة:

دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى ... فقبلته في الثغر تسعين أو إحدى

وقول ابن مطروح:

والله ما خطر السلو بخاطري ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا

<<  <   >  >>