ولعمري ما أنصف في هذا الكلام، فإن شعر الشريف في غاية الحسن والجزالة، ولكن العدو يقول في عدوه ما شاء.
فمن شعر الشريف الذي لا يشق غباره قوله:
هذي السديرة والغدير الطافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح
يا سدرة الوادي التي هي ظله الساري أهذا نشرك المتفاوح
هل عائد قبل الممات لمغرم ... عيش تقضى في ظلالك صالح
ما أنصف الرشأ الضنين بنظرة ... لما دعى مصغي البابة طامح
شط المزار به وبويء منزلا ... بصميم قلبك فهو دان نازح
غصن يعطفه النسيم وفوقه ... قمر يحف به ظلام جانح
وإذا العيون تساهمته لحاظها ... لم يرو منه الناظر المتراوح
فقلد مررنا بالعقيق فشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح
ظلنا بها نبكي فكم من مضمر ... وجدا أذاع هواه دمع سافح
برت الشؤون رسومها فكأنما ... تلك العراص المقفرات نواضح
يا صاحبي تأملا حييتما ... وسقى دياركما الملث الرائح
أدمى بدت لعيوننا أم ربرب ... أم خرد أكفالهن رواجح
أم هذه مقل الصوار رنت لنا ... خلل البراقع أم قنا وصفائح
لم تبق جارحة وقد واجهننا ... ألا وهن لها بهن جوارح
كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى ... ومن الشقاوة أن يراض القارح
لو بله من ماء ضارج شربة ... ما أثرت للوجد فيه لواقح
هذا والله الشعر الذي يجلى به صدأ الفكر، ولا يصدأ به الفكر كما زعمه ذلك الشاعر المنافس.
ومن شعره أيضاً قوله:
هل الوجد خاف والدموع شهود ... وهل مكذب قول الوشاة جحود
وحتى متى تفني شؤونك بالبكا ... وقد حد حدا للبكاء لبيد
وإني وإن حنت قناتي كبرة ... لذو مرة في النائبات جليد
يشير إلى قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ولنكتف من شعر الشريف بهذا المقدار، وما كان المقصود إلا إيراد أبيات يستدل بها على حسن طريقته فيه، ويكذب ذلك الشاعر في قوله ذاك.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
من معشر يرخص الأعراض جوهرهم ... ويحملون الأذى من كل مهتضم
قال في شرحه: الهجاء الباطن فيه في موضعين، أحدهما أن مراده بالأعراض جمع عرض بكسر العين وسكون الراء المهملتين، وأوهم بذكر الجوهر أنه يريد جمع عرض (_) والآخر وهو المثال المقصود - لكون الأول يشتبه بالمواربة والإبهام أيضاً - قوله: ويحملون الأذى من ظالمهم، يريد وصفهم بالذل وقلة المنفعة كما في بيت الحماسة المقدم ذكره. انتهى.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
في معرض المدح يهجى من قبيلته ... أعراضهم بين معمور ومنهدم
قال ابن حجة: الذي (أقوله) : أن الشيخ عز الدين قفل مصراعي بيته، ومنع الإفهام من (الدخول) إليه، فإني لم أجد فيه ما يدل على مجرد المدح، ولا اقترن به ما يصرفه إلى صيغة الهجو، بل أقول أن ألفاظ هذا البيت أجساد ما دب فيها من المعاني روح، وليس له بهذا النوع إلمام. انتهى، وهو في محله.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وكم بمعرض مدح قد هجوتهم ... وقلت سدتم بحمل الضيم والتهم
فحمل الضيم ينظر إلى قول الحماسي، إذ ظاهره الحلم، وباطنه الذل، ولكن حمل التهم، وإن قال ناظمه: أنه الغاية القصوى، فظاهره وباطنه أخرج البيت من معرض المدح إلى صريح (الهجو) ، فخرج بذلك عن حد النوع الممثل له به.
والشيخ عبد القادر الطبري عجز عن (نظم هذا) النوع، فأخذ صدر بيت الشيخ عز الدين، وعجز بيت الشيخ صفي الدين الحلي فقال:
في معرض المدح كم يهجون من ملأ ... ويحملون الأذى من كل مهتضم
وبيت بديعيتي هو قولي:
هجوت في معرض المدح الحسود لهم ... فقلت أنك ذو صبر على السدم
السدم بفتح السين والدال المهملتين: الغيظ مع حزن وهم، وهذا ظاهره المدح بأنه صبور، وباطنه الهجو بأنه يحمل غيظ الحسد وحزمه، ويصبر على مضضه، ويتجرع غصصه ولا يترك الحسد لهم.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
ما في عذولي بأس ذاك من فئة ... تغضي احتمالا وتشفي الكلم بالكلم