للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال في شرحه: أردت أن أجانس فيه بين العلو والغلو فلم يطع فيها الوزن، فعدلت إلى لفظة (جانسه) فحصل الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه. فهذا البيت مشتمل على الطاعة والعصيان حقيقة. انتهى.

وأنا أقول: لو أردنا أن نورد عليه مثل ما "أورده هو على بيتي الصفي والموصلي أمكننا أن نقول: أنه لو قال:

طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له غلو علة بارتفاعهم.

لحصل له ما أراد من جناس التصحيف بين العلو والغلو، فلم يكن بيته مشتملا على الطاعة والعصيان حقيقة كما ادعاه.

وبيت بديعية المقري قوله:

مكرم الأب سامي الجد عم ندى ... يوفي العقود وكم قد حلها وكم.

قال في شرحه: أراد أن يقول: يوفي العقود، وكم قد حل العقود، ليحصل له التجنيس التام فعصاه ولم يقم الوزن، فعدل إلى قوله: وكم قد حلها، فأطاعه الاستخدام. انتهى. وإذا أوردنا عليه إيراد ابن حجة قلنا أنه لو قال (يوفي العقود وكم حل العقود كم) لحصل له ما أراد فلم يعصه تجنيس ولا وزن.

وبيت بديعية العلوي قوله:

تلقاه مبتسما في موقف ضنك ... وكل قرن له وجه من الظلم.

أراد أن يقول: وكل قرن له عابس، ليقابل بينه وبين المبتسم فلم يطعه الوزن، فعدل عنه إلى قوله: له وجه من الظلم، فحصل له الكناية.

وبيت بديعيتي قولي:

أطعهم واحذر العصيان تنج إذا ... بيض الوجوه غدت في النار كالفحم.

أراد أن يقول بيض الوجوه غدت في النار سودا، ليحصل له المطابقة بين البيض والسود فلم يطعه فعدل إلى قوله: كالفحم، فحصل له التشبيه ومراعاة النظير بين النار والفحم. فقد عصاه نوع من البديع وهو الطباق، وأطاعه نوعان وهما التشبيه ومراعاة النظير، والله أعلم.

[البسط.]

بسط الكف يرون الجود مغنمة ... لا يعرفون لهم لفظا سوى نعم.

البسط هو الإطناب، وهو خلاف الإيجاز، ومنهم من خصه بالإطناب بتكثير الجمل، فقسم الإطناب إلى قسمين: بسط، وزيادة. فالأول الإطناب بالجمل، والثاني الإطناب بغيرها والبديعيون لا يعرفون ذلك.

وأعلم أن الإيجاز والإطناب من أعظم أنواع البلاغة، حتى نقل صاحب سر الفصاحة عن بعضهم، أنه قال: البلاغة هي الإيجاز والإطناب.

قال الزمخشري: كما أنه يجب على البليغ قي مظان الإجمال أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع.

أنشد الجاحظ:

يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء.

واختلفوا في تفسير الإيجاز والإطناب، فقال السكاكي وجماعة: الإيجاز هو أداة المقصود من الكلام بأقل من عبارة المتعارف من الأوساط الذين ليس لهم فصاحة وبلاغة، ولاعي وفهاهة، أي كلامهم في مجرى عرفهم في تأدية المعاني عند المعاملات والمحاورات. والإطناب أداؤه بأكثر منها، لكون المقام خليقا بذلك. وعلى هذا التفسير فيكون بين الإيجاز والإطناب واسطة وهي المساواة، وسيأتي الكلام عليها في بابها مبسوطا إن شاء الله تعالى.

وتعقب الخطيب القزويني تفسير السكاكي المذكور للنوعين، بأنه رد إلى الجهالة، لأنه لا يعرف كمية متعارف الأوساط وكيفيتها لاختلاف طبقاتهم حتى يقاس عليه ويحكم بأن المذكور أقل منه أو أكثر.

وأجيب بأن الألفاظ قوالب المعاني، والقدرة على تأدية المعاني بعبارات مختلفة في الطول والقصر والتصرف في ذلك بحسب مناسبة المقام، إنما هي من أدب البلغاء. وأما المتوسطون بين الجهال والبلغاء، فلهم في تفهيم المعاني حد معلوم من الكلام يجري فيما بينهم في الحوادث اليومية، يدل بحسب الوضع على المعاني المقصودة، وهذا معلوم للبلغاء وغيرهم، فالبناء على المتعارف واضح بالنسبة إليهما جميعا، فلا رد إلى الجهالة.

ولما لم يرفض القزويني تفسير السكاكي قال: الأقرب أن يقال: إن المقبول من طرق التعبير عن المعنى هو تأدية أصل المراد، وهو إما بلفظ مساوٍ له، أو ناقص عنه واف، أو زائد عليه لفائدة. الأول: المساواة، الثاني: الإيجاز، والثالث: الإطناب. واحترز بقوله: واف، عن الإخلال، وبقوله: لفائدة، عن الحشو والتطويل، فأثبت المساواة التي هي الواسطة أيضاً.

وقال ابن الأثير وجماعة: الإيجاز: التعبير عن المراد بلفظ غير زائد، والإطناب بلفظ أزيد لفائدة، فلم يثبتوا واسطة.

<<  <   >  >>