يبتدي فيقول ببحة عجيبة، بعد إرسال دموعه وتردد الزفرات في حلقه واستدعائه - من جؤذار غلامه - منديل عبراته: والله والله وإلا فإيمان البيعة تلزمه بحلها وحرامها، وطلاقها وعتاقتها، وما ينقلب إليه حزام وعبيدة لوجه الله أحرار إن كان هذا الشعر في استطاعة أحد مثله، أو أتفق من عهد أبي دؤاد الأيادي إلى زمان ابن الرومي لأحد شكله. بلى عيبه أن محاسنه تتابعت، وبدائعه ترادفت. فقد كان في الحق أن يكون كل بيت منه في ديوان بجمله ويسود به شاعره.
ثم ينشد، فإذا بلغ بيتاً تعجب من نفسه فيه وقال: أيها الوزير، من يستطيع هذا إلا عبدك علي بن هارون بن علي بن يحيى أبي منصور المنجم جليس الخلفاء، وأنيس الوزراء.
ثم ينشد الابن والأب يعوذه ويهتز له؛ ويقول: أبو عبد الله؛ استودعته الله؛ ولي عهدي؛ وخليفتي من بعدي؛ لو اشتجر اثنان بين مصر وخراسان لما رضيت لفصل ما بينهما سواء؛ وأمتعنا الله به ورعاه.
وحديثه عجب؛ إن استوفيته ضاع الغرض الذي قصدته. انتهى.
وإطراء ابن حجة لبيته قريب من هذا، وبعض المعاني متوافقة، وهذا المعنى مكروه للشاعر.
قال نصر الله ابن الأثير في كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب: يكره الشاعر أن يكون معجباً بنفسه مثنياً على شعره وإن كان مجيداً؛ إلا أن يريد ترغيب ممدوح أو ترهيبه، وقد جوز له ذلك مسامحة. انتهى.
ونرجع إلى بيت ابن حجة فنقول: في كونه من التفات نظر، لأنهم اشترطوا في الالتفات أن يكون المراد به واحداً كما تقدم عن الحافظ السيوطي في الإتقان، ويعطيه حدهم له أيضاً. والالتفات في بيته ليس كذلك لأنه أخبر أولاً من أحبابه أنهم لم يروه التفاتاً، ثم خاطب الظبي. وليس هذا من الالتفات المصطلح عليه عند الجمهور، نعم لم أخبر عن الظبي أولاً ثم خاطبه كان التفاتاً.
كما وقع في بتي بديعيتي وهو:
ما أسعد الظبي لو يحيك لحاظهم ... أو كنت يا ظبي تعزى لالتفاتهمِ
فذهب كلام ابن حجة في إطراء بيته ضائعاً، وهذا آفة العجب نعوذ بالله منه.
وبيت بديعية الطبري قوله:
قالوا وما التفتوا من بعند نفرتهم ... فلا تلمهم فما نفع بلومهمِ
هذا البيت عامر من الركة، ومقول القول في البيت الذي بعده، وهو بيت الكلام الجامع؛ وسيأتي إنشاده في محله؛ وهذا أعني كون البيت متعلقاً بغيره قبيح في البديعية؛ لأنهم قالوا: ينبغي أن يكون كل بيت منها مستبداً بمعناه، ليكون شاهداً على النوع الذي اشتمل عليه، من غير أن يحتاج إلى إنشاد سواه.
وبيت بديعية المقري قوله:
بين تولى فولى القلب ناحية ... أخرى عدمتك من وال ومن حكمِ
قوله: بين تولى، يعني من الولاية، وقوله: فولى القلب يعني؛ فر؛ فالمخاطب بقوله: عدمتك، هو البين، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب.
[الاستدراك]
أمثلت عودهم بعد العتاب وقد ... عادوا ولكن إلى استدراك صدهمِ
الاستدراك - هو رفع توهم يتولد من الكلام السابق رفعاً شبيهاً بالاستثناء، وهو معنى لكن.
ويشترط فيه هنا زيادة نكتة طريفة على معنى الاستدراك، لتحسنه وتدخله في البديع، وإلا فلا يعد منه؛ وهو قسمان. قسم يتقدم الاستدراك تقرير وتوكيد؛ أما لظفاً أو معنى لما أخبر به المتكلم، وهذا هو الأكثر الذي بنى عليه فحول أرباب البديعيات أبياتهم، وقسم لا يتقدمه ذلك.
فالأول كقول أبي الحسن بن فضال النحوي على ما في ربيع الأبرار للزمخشري، وقيل لابن الرومي:
وإخوان تخذتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن عن ودادي
وقالوا قد سعينا كل سعي ... لقد صدقوا ولكن في فساد
ونسب بعضهم هذه الأبيات إلى علي) عليه السلام (، وزعم أنه قالها في شأن طلحة والزبير. قال الشيخ حسين الطبيب في شرح شواهد المطول: وليس عليها طلاوة كلامه) عليه السلام (.
وقال صاحب القاموس: قال المازني: لم يصح أن علياً) عليه السلام (تكلم بشيء من الشعر غير هذين البيتين، وصوبه الزمخشري وهما:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما بروا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر
وذات ودقين: الداهية كأنها ذات وجهين: