للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هل يزجرنكم رسالة مرسلٍ ... أم ليس ينفع في أولاك ألوكُ

إنه إضراب عن خطاب بني كنانة إلى الإخبار عنهم، وإن كان يرى من قبل الالتفات فليس منه، لأن المخاطب بهل يزجرنكم من نبو كنانة، وبقوله: أولاك أنت. انتهى.

وهو عند الجمهور التفات من الخطاب في (يزجرنكم) إلى الغيبة في (أولاك) بمعنى أولئك.

الثاني - قد يطلق الالتفات على معنيين آخرين، أحدهما - تعقيب الكلام بجملة مستقلة متلافية له في المعنى، على طريق المثل والدعاء أو نحوهما كما في قوله تعالى: (وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) وقوله تعالى: (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم) .

وقول جرير:

أتنسى يوم تصقل عارضيها ... بفرع بشامة سقي البشامُ

قال إسحاق الموصلي: قال لي الأصمعي: أتعرف التفات جرير؟ قلت: وما هو؟ فأنشدني البيت ثم قال: أما تراه مقبلاً على شعره إذا التفت إلى البشام فدعا له.

ويسمى ما عقب بجملة مستقلة على طريق المثل، التمثيل، وسيأتي ذكره منفرداً في بيت من البديعية إنشاء الله تعالى.

الثاني أن تذكر معنى فتتوهم أن السامع اختلجه شيء فتلتفت إلى كلام تزيل اختلاجه، ثم ترجع إلى مقصودك، كقول ابن ميادة:

فلا صرمه يبدو في اليأس راحة ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه

كأنه لما قال: فلا صرمه يبدو، قيل له: وما تصنع به؟ فأجاب بقوله: وفي اليأس راحة. ويسمى هذا الاعتراض، وسيأتي والله أعلم: وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:

وعاذل رام بالتعنيف يرشدني ... عدمت رشدك هل أسمعت ذا صممِ

وابن جابر الأندلسي لم ينظم هذا النوع في بديعيته.

وبيت الموصلي قوله:

وما التفت لشان حج في شغفي ... ما أنت للركن من وجدي بملتزمِ

وبيت ابن حجة قوله:

وما أروني التفاتاً عند نفرتهم ... وأنت يا ظبي أدري بالتفاتهمِ

وقد أطنب ناظمه في مدحه وإطرائه، فلنذكر ما أطراه به، ثم تتكلم عليه: قال: إنه البيت الذي حظيت من بابه بالفتح، وناده الغير من وراء حجراته، وتغايرت ظباء الصريم، وهو في سرب بديعه على حسن التفاته؛ وودت ربوع البديعيات أن تسكن منها في بيت، ولكن راودته التي هي في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب؛ وقالت: هيت. ولقد أنصف الحريري في المقامة الحلوانية عند إيراد الجامع لمشبهات الثغر بقوله: يا رواة القريض، وأساة القول المريض أن خلاصة الجوهر، تظهر بالسبك، ويد الحق تصدع رداء الشك. قلت: وأنا ماش في غرض بيت بديعيتي على هذا السنن، وأرجو أن يكون بحسن التفاته في مرآة الذوق مثل الغزال نظرة ولفتة. وفيه التورية بتسمية النوع، وقد برزت في أحسن قوالبها. ومراعاة النظيرة في الملائمة بين الالتفات والظبي، والنفرة والانسجام، الذي أخذ بمجامع القلوب رقة. والتمكن الذي ما تمكنت قافية باستقرارها في بيت كتمكين قافيته. والسهولة التي عدها التيفاشي في باب الظرافة، وناهيك بظرافة هذا البيت. والتوشيح وهو الذي يكون معنى أول الكلام دالاً على آخره. فقد اشتمل هذا البيت على ثمانية أنواع من البديع مع عدم التكلف. انتهى.

وأنا أقول: ما زال الأدباء يستظرفون ويتعجبون ويضحكون من طريقة أبي الحسن علي بن هارون المنجم، حال إنشاده شعره حتى جاء هذا المتشدق ابن حجة، فزاد عليه وأربى بشيء كثير، فإن هذاك كان يتبجح ويتكلم بلسانه، ثم ينقضي الكلام. وهذا قاله: بفمه وأثبته في كتابه بقلمه، فخلده على مر الزمان؛ أضحوكة لأولي الألباب والأذهان.

وطريقة ابن النجم المشار إليها هي: ما حكاه الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى، في كتاب الروزنامجة، الذي كتبه إلى أستاذه ابن العميد إياه كونه ببغداد.

قال: استدعاني الأستاذ أبو محمد - يعني الوزير المهلبي - فحضرت وابنا المنجم في مجلسه، وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعهما من النشيد لأحضره؛ فأنشدا وجوداً بعد تشبيب طويل، وحديث كثير. فإن لأبي الحسن رسماً أخشى تكذيب سيدنا أن شرحته، وعتابه أن طويته، ولأن أحصل عنده في صورة متزيد أحب إلي من أن أكون في رتبة مقصر.

<<  <   >  >>