ومن شيمي والصبر مني شيمة ... متى أرم أطلالاً بعيني تدمعا
وقور على يأس الهوى ورجائه ... فما أتحسى الهم ألا تجرعا
خليلي مالي كلما هب بارق ... تكاد حصاة القلب أن تتصدعا
طوى الهجر أسباب المودة بيننا ... فلم يبق في قوس التصبر منزعا
لي الله كم أغضى الجفون على القذى ... وأطوي على القلب الضلوع توجعا
السادس - الالتفات من التكلم إلى الخطاب، وهو عكس الذي قبله ومثاله قوله تعالى: (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) الأصل (وإليه أرجع) فالتفت من التكلم إلى الخطاب ونكتته أنه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه، وهو يريد نصح قومه تلطفاً وإعلاماً أنه يريد لهم ما يريد لنفسه، ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله، كذا قال غير واحد. واعترض بأن هذا إنما يصح أن لو قصد الإخبار عن نفسه في كلا الجملتين. وليس بمتعين، لجوار أن يريد بقوله: ترجعون، المخاطبين لأنفسه. وأجيب: بأنه لو كان المراد ذلك لما صح الاستفهام الإنكاري، لأن رجوع العبد إلى مولاه ليس بمستلزم أن يعبده غير ذلك الراجع، فالمعنى: كيف لا أعبد من إليه رجوعي، وإنما عدل عن قوله: وإليه أرجع، إلى واليه ترجعون، لأنه داخل فيهم؛ ومع ذلك أفاد فائدة حسنة وهي؛ تنبيههم على أنه مثلهم في وجوب عبادة من إليه الرجوع.
ومن أمثلته في الشعر قول مجنون ليلى:
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيام الحمى ثم انثنى ... على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا
وقوله أيضاً:
تمر الصبا صفحاً بساكن ذي الغضا ... ويصدع قلبي أن يهب هبوبها
إذا هبت الريح الشمال فإنما ... جواي بما تهدى إلي جنوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما ... هوى كل نفسٍ حيث حل حبيبها
وحسب الليالي أن طرحنك مطرحاً ... بدار قلىً تمسي وأنت غريبها
وقول عروة بن حزام صاحب عفراء:
أقول لعراف اليمامة داوني ... فإنك إن داويتني لأريبُ
فوا كبدي أمست رفاتاً كأنما ... يلذعها بالموقدات طبيب
عشية لا عفراء منك بعيدة ... فتسلو ولا عفراء منك قريب
وقوله أيضاً:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفياني
فما تركا من حيلة يعلمانها ... ولا شربة إلا وقد سقياني
ورشا على وجهي من الماء ساعة ... وقاما مع العواد يبتدران
وقالا شفاك الله والله ما لنا ... بما ضمنت منك الضلوع يدان
فويلي على عفراء ويل كأنه ... على الصدر والأحشاء حد سنان
فيا رب أنت المستعان على الذي ... تحملت من عفراء منذ زمان
فعفراء أوفى الناس عندي مودة ... وعفراء عني المعرض المتواني
أفي كل يوم أنت رام بلادها ... بعينين إنسانا هما غرقان
فالتفت من التكلم إلى خطاب نفسه، ليتأتي له الإنكار ويخرج الكلام مخرج العذل. فلو استمر على التكلم فاته ذلك.
ومنها قول الصردر:
ومعنف في الوجد قلت له أتئد ... فالدمع دمعي والحنين حنيني
ما نافعي إذ كان ليس بنافعي ... جاه الصبا وشفاعة العشرين
لا تطرقن خجلاً للومة لائم ... ما أنت أول حازم مفتون
فهذه جملة أقسام الالتفات الست وأمثلتها، وهنا تنبيهان: أحدهما - ذكر صدر الأفاضل في ضرام السقط: إن من شرط الالتفات أن يكون المخاطب بالكلام في الحالين واحداً، كقوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) فإن ما قبل هذا الكلام وإن لم يخاطب به الله من حيث الظاهر، فهو بمنزلة المخاطب به لأن ذلك يجري من العبد مع الله لامع غيره.
بخلاف قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاحِ
أغثني يا فداك أبي وأمي ... بسببٍ منك اتك ذو ارتياح
فإنه ليس من الالتفات في شيء، لأن المخاطب بالبيت الأول امرأته، وبالبيت الثاني هو الخليفة. انتهى.
فهذا أخص من تفسير الجمهور، لأن البيتين عندهم من الالتفات، لأنه عبر عن الخليفة أولاً بطريق الغيبة، وثانياً بطريق الخطاب.
وقال الصدر المذكور في قول أبي العلاء: