أطفأ مصباحه ونام؛ وقد كان بات ليلته يتململ؛ لأنه رأى أنه قد بلغ حاجته وشفى غيظه؛ قال الراعي: فخرجنا من البصرة؛ فما وردنا من مياه العرب؛ إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه؛ حتى أتينا حاضر بني نمير؛ فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون: قبحكم الله وقبح ما جئتم به.
والقسم الثاني- هو السباب الذي أحدثه جرير أيضاً وطبقته، وكان يقول: إذا هجوتم فاضحكوا، وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتا، ولا عيرت به قبيلة. انتهى.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله يخاطب العاذل:
ٍحسبي بذكرك لي ذما ومنقصة ... فيما نطقت فلا تنقص ولا تذم.
قال ابن حجة: هذا البيت شموس إيضاحه آفلة في غيوم العقادة، وليته استضاء بما قاله جرير، ومشى على سننه.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت عز الدين الموصلي قوله يخاطب العذول:
لقد تفيهقت بالتشديق عن عذلي ... كيف النزاهة عن ذا الأشدق الخصم.
قال ابن حجة: قد تقر أن النزاهة هجو، ولكن شرطوا ألا ينظموا هجوها إلا بألفاظ لا تنفر منها العذراء في خدرها، وألفاظ عز الدين تنفر منها الجان فكيف حال العذراء. وحاصل القضية أنه نزه ألفاظه عن النزاهة ولم يتفيهق ولم يتشدق غيره، وما أحقه بقول القائل:
وما مثله إلا كفارغ حمص ... خلي عن المعنى ولكن يقرقع.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
نزهت لفظي عن فحش وقلت لهم ... عرب وفي حيهم يا غربة الذمم.
هذا البيت فيه النزاهة على وفق شروطها، غير أن لفظة الفحش فيه فاحشة.
والشيخ عبد القادر الطبري شن الغارة على بيت ابن حجة فقال:
نزهت قولي عن ذم فهم عرب ... بقال في حيهم يا غرابة الذمم.
حشمة النزاهة في هذا البيت أوضح من أن تخفى.
وبيت الشيخ إسماعيل المقري في بديعيته قوله:
شكلان في حمق معلوم اجتما ... عادا لأصل وخيم غير ذي كرم.
قال ناظمه: إن هذا البيت فيه النزاهة والتورية في موضعين، فإن قوله: (معلوم) يحتمل أنه أراد ضد المجهول، ويحتمل مع لوم، أي شكلان في حمق معه لوم؛ وقوله: (وخيم) يحتمل انه وصف الأصل بالوخامة وعدم الصحة؛ فيكون الواو أصلية؛ ويحتمل أن الواو عاطفة للخيم بمعنى السجية على الأصل. انتهى.
والذي أقوله: انه إذا وزنت هذه التورية بعقادة تركيب هذا البيت وقلق ألفاظه وخصوصا صدره؛ خفت التورية ورجحت؛ غير أن ذلك ليس بمستنكر من الشيخ فإنه له عادة.
[الهزل المراد به الجد.]
هازلت بالجد عذالي فقلت لهم ... أكثرتم العذل فاخشوا كظة البشم.
هذا نوع من البديع لطيف المسلك رشيق المأخذ؛ وهو عبارة عن أن يقصد المتكلم مدح إنسان أو ذمه، فيخرج مقصوده مخرج الهزل المعجب والمجون المطرب، هكذا قالوا. وأرى أنه لا يختص بالمدح والذم، بل كل مقصد أخرجه المتكلم هذا المخرج عد من هذا النوع، سواء كان مدحا, أو ذما، أو غزلا أو شكوى، أو اعتذارا أو سؤالا أو غير ذلك.
وشاهده في الهجو، قول أبي نواس من قصيدة يهجو بها تميما:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ... فقل عد عن ذلك كيف أكلك للضب.
فقوله: (كيف أكلك للضب) هزل، والمراد هنا الجد، لأن المقصود التعيير بأكل الضب، فإن تميما يكثرون من أكله.
وكان الحيص بيص الشاعر تميما، واسمه سعد بن محمد، وكان فيه تيه وتعاظم، وكان لا يخاطب أحدا إلا بالكلام العربي، ولا يلبس إلا زي العرب، ويتقلد سيفا؛ فعمل فيه أبو القاسم الفضل.
وقيل الرئيس علي بن عيسى الأعرابي الموصلي:
كمك تبادى وكم تطول طرطو ... رك ما فيك شعرة من تميم.
فكل الضب واقرض الحنظل اليأ ... بس واشرب ما شئت بول الظليم.
ليس ذا وجه من يضيف ولا يق ... ري ولا يدفع الأذى عن حريم.
فأجابه الحيص بيص بوقوله:
لا تدع من عظيم قدر وإن كن ... ت مشارا إليه بالتعاظم.
فالشريف الكريم ينقص قدرا ... بالتعدي على الشريف الكريم.
ولع الخمر بالعقول رمى الخم ... ر بتنجيسها وبالتحريم.
قالوا: والفاتح لهذا الباب أعني نوع الهزل يراد به الجد، امرؤ القيس في قوله:
وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بان الفتى يهذي وليس بفعال.
قال ابن أبي الأصبع: ما رأيت أحسن من قوله ملتفتا: (وإن كان بعلها) .