للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في البيت الأول، اخترت: من الخيرة واخترت الثانية: من الاختيار. وفي الثاني، تجد الأولى: من الجود؛ والثانية: من الوجدان. وهذه الأشياء لا يخفى على الذوق السليم ما فيها من الاستثقال. ولم أقل هذا الكلام جهلاً بمقدار الشيخ شرف الدين بن الفارض، وأنه لم يكن من الفصحاء، ألا ترى قصائده التي أخلاها من الجناس مثل الميميتين والجيمية، واللامية؛ والمهموزة، وغيرها ما أرقها وأحلاها. والجناس إذا كثر في الكلام مُل، اللهم إلا أن يكون سهل التركيب، ليس على المتكلم فيه كلفة. انتهى كلامه.

وقال الشيخ شهاب الدين محمود: إنما يحسن الجناس إذا أتى في الكلام عفواً من غير كد، ولا بعد، ولا ميل إلى جانب الركة، ولا يكون كقول الأعشى:

وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاوٍ مشل شلولٌ شلشل شول

ولا كقول مسلم بن الوليد:

سلت وسلت ثم سلَّ سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا

انتهى.

ومثل هذين البيتين قول أبي الطيب المتنبي:

فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهم قلاقل

قال ابن حجة: هذا البيت حكمت علي أبي الطيب به المقادير.

قال الثعالبي: قال ليس سهل بن المرزبان يوماً: إن من الشعراء من شلشل، ومنهم من سلسل، ومنهم من قلقل، يشر إلى الأبيات الثلاثة. فقال الثعالبي: إني أخاف أن أكون رابع الشعراء، أراد قول الشاعر:

الشعراء فاعلمن أربعة ... فشاعر يجري ولا يجرى معه

وشاعر من حقه أن ترفعه ... وشاعر من حقه أن تسمعه

قال الثعالبي: ثم إني قلت بعد ذلك بحين:

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فأنف البلابل باحتساء بلابل

والله أعلم.

[الاستطراد]

أجروا سوابق دمعي في محبتهم ... واستطردوها كخيل يوم مزدحم

الاستطراد في اللغة: مصدر استطراد الفارس لقرنه، إذا طرد فرسه بين يديه، يوهمه الفرار، ثم يعطف عليه على غرة منه، وهو ضرب من المكيدة. وفي الاصطلاح، هو أن يكون الناظم أو الناثر آخذاً في غرض من أغراض الكلام، من غزل أو مدح أو وصف أو غير ذلك، فيخرج منه إلى غرض آخر.

وقال ابن أبي الحديد: الاستطراد، هو أن تخرج بعد تمهيد ما تريد أن تمهده إلى الأمر الذي تروم ذكره، فتذكره وكأنك غير قاصد لذكره بالذات، بل قد حصل ووقع ذكره بالعرض من غير قصد، ثم تدعه وتتركه وتعود إلى الأمر الذي كنت في تمهيده كالمقبل عليه وكالملغي لما استطردت بذكره.

فمن ذلك قول البحتري وهو يصف فرساً:

واغر في الزمن البهيم محجل ... قد رحت منه على أغر محجلِ

كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكلِ

يهوي كما هوت العقاب وقد رأت ... صيداً وينتصب انتصاب الأجدل

ما إن يعوف قذى ولو أوردته ... يوماً خلائق حمدوية الأحول

ذنب كما سحب الرشاء يذب عن ... عرف وعرفه كالقناع المسبل

جذلان ينفض عذرة في غرة ... يفقٍ تسيل حجولها في جندل

كالرائح النشوان أكثر مشية ... عرضاً على السنن البعيد الأطول

هزج الصهيل كأن في نغماته ... نبرات معبد في الثقيل الأول

ملك القلوب فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل

ألا تراه كيف استطرد بذكر حمدويه الأحول الكاتب، وكأنه لم يقصد لذلك ولا أراده، وإنما جرته القافية، ثم ترك ذكره وعاد إلى وصف الفرس ولو أقسم إنسان أنه ما بنى القصيدة منذ افتتحها إلا على ذكره، ولذلك أتى بها على روي اللام لكان صادقاً، فهذا هو الاستطراد. ومن الفرق بينه وبين التخلص، أنك في التخلص متى شرعت في ذكر الممدوح أو المهجو تركت ما كنت فيه من قبل بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه من المديح والهجاء بيتاً بعد بيت حتى تنقضي القصيدة. وفي الاستطراد يمر ذكر الأمر الذي استطردت به مروراً كالبرق الخاطف، ثم تتركه وتنساه وتعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصد قصد ذاك، وإنما عرض عروضاً، لم يقصد بذكر الأول التوصل إليه، ثم يعود إلى ما كان فيه، فإن لم يعد فهو تخلص. وهذا هو الفرق بينه وبين المخلص. وأحسن ما سمع في مثاله قول السمؤل، بل قيل أنه أول شاهد ورد في هذا النوع:

وأنا لقوم لا نرى الموت سبة ... إذا ما رأته عامر وسلولُ

<<  <   >  >>