واعلم أن أرباب البديع اختلفوا في أقسام الجناس، وأسمائها اختلافاً كثيراً، واستيفاء ذلك هنا يقضي إلى الإطناب والإسهاب. وقد أفرده بالتأليف جماعة منهم الشيخ صفي الدين الحلي، ألف فيه كتاباً سماه الدر النفيس في أجناس التجنيس، والشيخ صلاح الدين الصفدي ألف فيه كتابه المسمى بجنان الجناس. فمن أراد بسط القول فيه فعليه بهما.
تنبيه - قال أبو المكارم ناصر الدين المطرزي في شرح المقامات: اعلم أن أنواع الجناس لا تستحسن حتى يساعد اللفظ المعنى، ولا تستلذ حتى تكون عذبة الإصدار والإيراد، سهلة سلسلة المقاد، ولا تبرع حتى يساوي مطلعها مقطعها، ولا تملح حتى يوازي مصنوعها مطبوعها، مع مراعاة النظائر، وتمكن القرائن، وإلا فما قلق في أماكنه، ونبا عن مواقعه، فبمعزل عن الرضا عند علماء البيان، وبمكان من البشاعة لدى أرباب النثر وأصحاب النظم. فإذا أردت أن تستوفي أقسام المحاسن، وتجتنب أنواع المشائن، فأرسل المعاني على سجيتها ودعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد، لم تكتس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها. فأما أن تصنع في نفسك أنه لا بد لك من تجنيس أو تسجيع بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه على خطر من الخطأ.
فإن ساعدك الجد كما ساعد طاهراً البصري في قوله:
ناظراه بما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني
وأبا تمام في قوله:
وأنجدتم من بعد اتهام داركم ... فيا دمع أنجدني على ساكني نجدِ
فذاك وإلا أطلقت لسان العتب، وأرخيت عنان الذم، وأفضي بك طلب الإحسان من حيث لم تحسنه إلى أشنع القبح، وأوقعك الولوع بالثناء عليك في ورطة القدح، وانقلب إحسانك إساءة، وتحول سرورك مساءة. انتهى.
وقال الشيخ الأديب صلاح الدين الصفدي، في شرحه لامية العجم: الجناس وإن كان من أنواع البديع، ولكن بعض صوره مستثقل، كقول ابن الفارض:
أما لك من صد أمالك عن صد ... لظلمك ظلماً منك ميل لعطفةِ
فرُحن بحزن جازعات بعيدما ... فرحن بحزن الجزع بي لشبيبتي
فانظر إلى استثقال هذا البيت الأول لما فيه من جناس التحريف في (صد وصدٍ) والأول من الصدود، والثاني من الصدي، أي عطشان، وفي (ظلم وظُلم) الأول بالفتح، وهو الريف؛ والثاني بالضم وهو الجور مع التقديم والتأخير الذي يحتاج إقليدس، حتى يستخرج ترتيبه على خط مستقيم، والتقدير فيه: أمالك ميل لعطفة عن صد، أمالك ظلماً منك عن صد لظلمك. فأمالك الأولى، مركبة من همزة الاستفهام، وما النافية، ولام الجر؛ وكاف الخطاب, وأما البيت الثاني، ففي (فرحن) مرتين، الأولى (الفاء) فاء العطف و (رحن) فعل ماض من الرواح لجماعة الإناث. والثانية فعل ماض من الفرح لجماعة الإناث. وفيه (الحزن) مرتين، الأولى بضم الحاء ضد الفرح، والثانية بفتح الحاء، من حزن الأرض، ضد السهل. ولهذه الألفاظ التي عقدها عقد الميزان لأجل الجناس، صار كلامه وحشياً من العوام، بل من بعض الخواص الذين لم يتمهروا في الأدب، وقل أن تجد من ديوانه نسخة صحيحة. وأكثر ما يساعد الأفاضل على تصحيح ألفاظه وزن الشعر، كما في قوله (صد وصد) الأولى مشددة، والثانية مخففة، وكما في قوله أيضاً:
وإذا أذى ألمٍ المّ بخاطري ... فشذا أعيشاب الحجاز دوائي
فانظر إلى هذا، لا يستقيم الكلام إلا بمراعاة الوزن، فإنه يضطر الواقف إلى أن يجعل الأول من الألم، والثاني من الإلمام، ولهذا جاء جناس العماد الكاتب في الشعر أخف منه في النثر، لأن الوزن يضع كل كلمة في مكانها.
ومن الجناس المستثقل: جناس التصحيف، كقول ابن الفارض أيضاً:
وما اخترت حتى اخترت حبك مذهباً ... فواحيرتي إن لم يكن فيك خيرتي
وجذ بسيف العزم سوف فإن تجد ... تجد نفساً فالنفس إن جدت جدت