قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل [تقرأ من] القرآن شيئا؟ قال: أقرا الأكثر الأطيب (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) فأغضبه فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره. قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، بل قال على رسله: وما يكون؟ تلد غلاماً على فراشي فيقال: فلان بن الحضين، كما يقال عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله وقال: لا يبعد الله غيرك.
التعريض في هذه الحكاية المستحسنة في موضعين: أحدهما قوله: أجل أسن عمك عن تسور الحيطان، يعرض بفاحشة عبد الله. والثاني: في تلاوة الآية يعرض بأنهم ليس لهم قديم ذكر، وغنما هم حديثو عهد بالرياسة.
ومن أمثلته في الشعر قول الحماسي:
أنا ابن زيابة أن تلفني ... لا تلف
ني في النعم العازب.
ومراده أني لست راعيا وأنك راعي.
وقول الحجاج بن يوسف يعرض بمن تقدمه من الأمراء:
لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم.
وقول أبي فراس بن حمدان من قصيدة يمدح العلويين، ويعرض ببني عباس:
ما في ديارهم للخمر معصر ... ولا بيوتهم للسوء معتصم.
ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم ... ولا يرى لهم قرد له حشم.
أراد بالخنثى: عبادة نديم المتوكل، وبالقرد، قردا كان لزبيدة طالبت الناس بالسلام عليه، وجعلت له حشما وأتباعا، حتى قتله يزيد بن مزيد الشيباني.
وأجمع العلماء على أن التعريض أرجح من التصريح لوجوه: أحدها، أن النفس الفاضلة لميلها إلى استنباط المعاني تميل إلى التعريض شفعا باستخراج معناه بالفكر. ثانيها: أن التعريض لا ينتهك معه سجف الهيبة، ولا يرتفع به ستر الحشمة. ثالثهما: أنه ليس للتصريح الأوجه واحدة، وللتعريض وجوه وطرق عديدة. رابعها: أن النهي صريحا يدعو إلى الإغراء، بخلاف التعريض كما يشهد به الوجدان.
والفرق بين الكناية والتعريض، أن الكناية ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن تذكر شيئا يدل به على شيء لم تذكره، قاله الزمخشري.
وبيت بديعية الصفي قوله:
ومن أتى ساجدا لله ساعته ... ولم يكن سا
جدا في العمر للصنم.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
تطويل تعريض شانيهم يعظمه ... والرفض أقبح شيء موجب الأضم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تعريض مدح أبي بكر يقدمني ... في سبق حليهم مع موصليهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
أوحى إليه بما أوحى وثبتته ... عند الخطاب فلم يصعق ولم يهم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
وقد تسلسل من صلب إلى رحم ... بكل عقد صحيح الحكم منتظم.
وبيت بديعيتي قولي:
لا تعرضن لتعريضي بمدحه ... فإنني في ولادي غير متهم.
بقال: لا تعرضن له- بكسر الراء وفتحها- أي لا تعترض فتمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده، لأنه يقال: سرت فعرض لي في الطريق عارض، من جبل ونحوه أي مانع من المضي. والولاد مصدر بمعنى ولادة، والتعريض في البيت ظاهر والله سبحانه وتعالى اعلم.
[جمع المؤتلف والمختلف.]
هم هم ائتلفوا جمعا وما اختلفوا ... لولا الأبوة قلنا لاستوائهم.
هذا النوع اختلف فيه أقوال المؤلفين، وعبروا عنه بعبارات غير سديدة، ومثلوا له بأمثلة غير مطابقة، والذي استقر عليه رأي المحققين أنه عبارة عن أن يريد المتكلم التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح احدهما على الأخر بزيادة فضل لا ينقص بها مدح الأخر، فيأتي لأجل الترجيح بمعان تخالف معنى التسوية، كقوله تعالى: (وداود وسليمان غذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) سوى بينهما في الحكم والعلم وزاد فضل سليمان بالفهم.
وكقول زهير يصف أبوي ممدوحه:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا.
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا.
وقول الخنساء في أخيها وقد أرادت أن تساوي بينه وبين أبيه مع مراعاة حق الوالد:
جارى أباه فاقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الفخر.
وهما وقد برزا كأتهما ... صقران قد حطا إلى وكر.