للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الشاهد في الهلال والغزال, فإنهما يحتملان أن يكونا بمعنى القمر وولد الظبي, وهذا هو المعنى القريب المورى به, ويحتمل أن يراد به جزآن من الرحل. فإن الهلال في اصطلاحهم منفرج مقدم الرحل, والغزال للرحل كالقربوس للسرج, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه. ولولا ذكر الشداد قبلهما لما تهيأت التورية فيهما.

وأما ما استشهد به ابن حجة وغيره على هذا القسم من قول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة:

وسيرك فينا سيرة عمرية ... فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب

وأظهرت فينا من سميك سنة ... فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب

وقولهم: لولا ذكر السنة لما تهيأت التورية في الفرض والندب, ولا فهم منهما الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية, فليس بصحيح. فإن كلا من الفرض والندب يهيئ الآخر للتورية ولو لم يذكر السنة -كما هو ظاهر- فهو القسم الثالث من أقسام التورية المهيأة, لا من هذا القسم.

الثاني _ ما تهيأت بلفظ بعدها. قال ابن حجة: ومن أمثلته نثرا قول علي عليه السلام في الأشعث بن قيس: انه كان يحوك الشمال باليمين. فالشمال يحتمل أن تكون جمع شملة, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه, ويحتمل أن يراد به الشمال التي هي إحدى اليدين, وهذا هو المعنى القريب المورى به. ولولا ذكر اليمين بعد الشمال ما تنبه السامع لمعنى اليد. انتهى.

قال بعض المحققين: توارى وجه التورية عن هذا المثال, وليس فيه غير إبهام الطباق بين اليمين والشمال, لما قالوه: من أن التورية إطلاق لفظ له معنيان يمكن حمله على كل منهما. ووصف الشمال بالحياكة نفى أن يراد بها مقابل اليمين, فانحصر لفظ الشمال في معنى الجمع كما لا يخفى. انتهى, وهو في محله.

والمثال الصحيح لهذا القسم قول ابن الربيع:

لولا التطير بالخلاف وإنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا

لقضيت نحبي في جنابك خدمة ... لأكون مندوبا قضى مفروضا

فإن المندوب يحتمل أن يكون اسم مفعول من ندب الميت: إذا بكاه, وهو المعنى البعيد الذي قصده الناظم وورى عنه, ويحتمل أن يكون خلاف المفروض, وهذا هو المعنى القريب المورى به, وذكر المفروض بعده هو الذي هيأه للتورية, ولو لم يكن لما كان فيه تورية البتة.

الثالث - ما وقعت فيه التورية بلفظين أو أكثر, لولا كل منهما لم تتهيأ التورية في الآخر.

كقول عمر ابن أبي ربيعة في محبوبته الثريا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر, وقد تزوجها بن عبد الرحمن بن عوف:

أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني

فإن كلا من الثريا وسهيل هيأ صاحبه للتورية, فلفظ الثريا هيأ سهيلا لاحتمال أن يراد به الكوكب المعروف, ولفظ سهيل هيأ الثريا لاحتمال أن يراد بها المنزلة المعروفة, لكون أحدهما شماليا والآخر جنوبيا, وهذا هو المعنى القريب المورى به. ومراد الشاعر إنما هو صاحبته الشامية الدار والقبيلة, لأنها من بني أمية الأصغر بن عبد شمس, وسهيل اليماني الدار لا القبيلة, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه, فتم له ما أراد من الإنكار على من جمع بينهما بألطف وجه.

ومنه قول المعري:

إذا صدق الجد افترى العم للفتى ... مكارم لا تكري وإن كذب الخال

فإن كلا من الجد والعم والخال يهيئ صاحبه للتورية بظاهر معناه, ومراده بالجد: الحظ, وبالعم: الجماعة, وبالخال: المخيلة.

تنبيهات الأول - الفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية, واللفظ الذي تترشح به, واللفظ الذي تتبين به: أن الأول لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلا, والثاني والثالث إنما هما مقويان للتورية, ولو لم يذكرا لكانت التورية موجودة. غير أن الثاني يكون من لوازم المعنى القريب المورى به, والثالث يكون من لوازم المعنى البعيد المورى عنه.

الثاني - ليس كل لفظ مشترك يتصور فيه التورية, بل لا بد من اشتهار معانيه وتداولها على الألسنة بخلاف اللغات الغريبة, إلا أن يختص قوم باشتهار لغة غريبة بينهم, فينبغي اعتبار حال المخاطب بها.

<<  <   >  >>