والثالث، وهو كون المحذوف أكثر من جملة، كقوله تعالى "أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف" أي إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه فأتاه وقال له: يا يوسف.
فاعلم أن الحذف على ضربين، أحدهما أن لا يقام شيء مقام المحذوف كالأمثلة السابقة. الثاني أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى "وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك" أي فأصبر ولا تحزن، فإنه قد كذبت رسل من قبلك. وأدلة الحذف كثيرة: ومنها العقل، كقوله تعالى "وجاء ربك" أي أمر ربك، أو عذابه، أو بأسه.
ومنها الشروع في الفعل، نحو باسم الله، فيقدر ما جعلت التسمية مبدأ له.
ومنها اقتران الكلام بالفعل، كقولهم للمعرس: بالرفاء والبنين، أي أعرست، فإن كون هذا الكلام مقارنا لأعراس هذا المخاطب+دل على أن المحذوف (أعرست) إلى غير ذلك من الدلالات الحالية والمقالية، والله أعلم.
وبيت بديعية الصفي قوله:
واستخدم الموت ينهاه ويأمره ... بعزم مغتنم في زي مغترم.
قال في شرحه: هذا البيت محتو على ضربي الإيجاز: إيجاز القصر وإيجاز الحذف، فقوله (واستخدم الموت) خاصة هذا مجاز في غاية الاختصار، وقوله (بعزم مغتنم في زي مغترم) يريد بعزم رجل مغتنم في زي رجل مغترم. انتهى. وتشادق ابن حجة هنا على جاري عادته السيئة فقال: لكنه ما تحته في بلاغة الإيجاز كبير أمر.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
وسل زمانك تلف الكتب راوية ... إيجاز معنى طويل الذكر مرتسم.
أراد أهل زمانك.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أوجز وسل أول الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم.
قال في شرحه: الإيجاز البديع البليغ الغريب في قولي (وسل أول الأبيات) فإنه إشارة إلى أول بيت وضع للناس، والإيجاز الثاني في قولي (وسل مكة) أي أهل، فهذا البيت فيه إيجازان بليغان. انتهى.
وأنا أقول: إن الإيجاز الأول الذي ادعى أنه بديع بليغ غريب هو بنوع الألغاز أنسب وإلى التعمية اقرب.
وبيت بديعية المقري قوله:
مستقبل الصف ماضي الحد طلعته ال ... حياة والموت في حرب وفي سلم.
قال في شرحه: اشتمل هذا البيت على نوعي الإيجاز، فإن قوله (طلعته الحياة والموت) إيجاز عظيم، والحذف في قوله (الحياة والموت) فإن المراد: طلعته طلعة الحياة والموت، فحذف إيجاز.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
عن كنه معناه كل المطنبون وقد ... أوتى البلاغة والإيجاز في الكلم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
إن قال فالكون والأقدار قائلة ... أوصال فالموت في بتاره الخدم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
دعا تحدى بآيات محكمة ... إيجازها في حمى الإعجاز لم يظم.
قال في شرحه: إيجاز هذا البيت من نوع إيجاز القصر وهو صدر البيت، وأما إيجاز الحذف فهو خال منه.
وبيت بديعيتي قولي:
لا ترض إيجاز مدح فيه وأصغ إلى ... مدحي الذي شاع بين الحل والحرم.
هذا البيت اشتمل على قسمي الإيجاز من القصر والحذف، لأن معناه: لا ترض اختصار المدح في ذاته وصفاته الشريفة، ودع موجز القول فيه، ومل إلى مدحي المطنب المشتهر الذي شاع وظهر بين أهل الحل والحرم.
[التسجيع.]
تسجيع منتظمي والغر من حكمي ... ألفاظها بفمي در من كلم.
السجع والتسجيع مأخوذان من سجع الحمامة وهد يرها وترديد صوتها تشبيها بها لتكرره على نمط واحد. ومنهم من خص السجع بالنثر، والصحيح عدم اختصاصه به، بل يجري في النظم أيضاً، وهو أن يأتي الشاعر في البيت بكلمات مقفاة على روي البيت، غير متزنة بزنة عروضية، ولا محصورة في عدد معين.
كقول أبي تمام:
تجلى به رشدي وأقرب به يدي ... وفاض به ثمدي وأروى به زندي.
وقول ابن هاني المغربي في قصيدة يمدح بها المعز الفاطمي:
ورث المقيم بيثرب فالمنبر الأ ... على له والترعة العليا.
والخطبة الزهراء فيها الحكمة ال ... غراء فيها الحجة البيضاء.
وربما اتفقت الكلمات في الوزن العروضي كقول أبي الطيب:
فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل.
وأما السجع في النثر فهو تواطؤ الفاصلتين على حرف واحد، وهو ثلاثة أضرب: