للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

بالغ بما شئت مدحا فيه مجتنبا ... ما لا يليق بخير الخلق كلهم

هذا البيت مثل بيت الشيخ عز الدين الموصلي, فإنه ما زاد على أن وصى المادح أن يبالغ بما شاء في مدحه صلى اله عليه وآله وسلم مجتنبا ما لا يليق به, وليس فيه من المبالغة شيء.

وبيت بديعية المقري قوله:

وروت الأرض طرا من حديث دم ... جرى قديما فأغناها عن الديم

قال في شرحه: المبالغة في قوله (روت الأرض) يعني الظبا, من الدم بما أغناها عن الديم, والحديث ضد القديم. وقوله (جرى قديما) بالنسبة إلى وقتنا, ففي البيت التوهيم أيضاً. انتهى ملخصا.

ولا يخفى أن قوله (طرا) أخرج البيت من المبالغة إلى الإغراق , بل إلى الغلو, لأن ذلك مستحيل عقلا وعادة.

[الإغراق]

لو أنه رام إغراق العداة له ... لأصبح البر بحرا غير مقتحم

الإغراق هو أن تدعي لشيء وصفا بالغا حد الإمكان عقلا, والاستحالة عادة.

كقول عمرو بن الأيهم:

ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا

فإنه أدعى أن جاره لا يميل عنه إلى وجهة إلا وهو يتبعه الكرامة. وهذا عقلا, مستحيل عادة.

ومنه قول امرئ القيس:

تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال

فإن أذرعات الشام, ويثرب مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ورؤية النار من بعد هذه المسافة - إذا لم يكن ثم حائل من جبل ونحوه - لعظم جرمها لا يمتنع عقلا ويمتنع عادة. هذا أن فسر قوله (تنورتها) بمعنى نظرت إلى نارها حقيقة, وأما أن فسر بمعنى توهمت نارها, وتخيلتها في فكري, لم يكن فيه إغراق.

وقول أبي الطيب المتنبي:

روح تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن

كفى بجسمي نحولا أنني رجلا ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني

فدعوى نحول الشخص حتى يصير مثل الخلال, ولا يستدل عليه إلا بالكلام, أمر ممكن عقلا, إذ الشيء الدقيق إذا كان بعيدا لا يرى, بخلاف الصوت, ولكن ذلك ممتنع عادة.

وقد تفنن الشعراء في المبالغة في النحول, فمن ذلك قول الآخر:

ها فانظروني سقيما بعد فرقتكم ... لو لم أقل ها أنا للناس لم أبن

لو أن إبرة رفاء أكلفها ... جريت في ثقبها من دقة البدن

والبيت الثاني من الغلو.

وما أحلى وألطف قول الشيخ عمر بن الفارض:

كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي

وقول نصر السفاقسي والبيت الأول من الغلو, والثاني من الإغراق:

أذابه الحب لو تمثله ... بالوهم خلق لأعياهم توهمه

لولا الأنين ولوعات تحركه ... لم يدره بعيان من يكلمه

وقول بعضهم:

قد سمعتم أنينه من بعيد ... فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين

وقول الآخر مع بديع التلميح, وهو ممدود من محاسن شواهد هذا النوع:

فلو أن ما بي من جوى وصبابة ... على جمل لم يبق في الناس كافر

يريد أنه لو كان ما به من الحب على جمل لنحل حتى يلج في سم الخياط فيخرج الكفار من النار, لأنه تعالى قال (ولا يدخلون الجنة حتى يلح الجمل في سم الخياط) فلمح إلى الآية بناء على ظاهرها, وإلا فالمراد بها التأبيد. قالوا: ونحول الجمل حتى يدخل في سم الخياط غير مستحيل عقلا, إذ القدرة صالحة لذلك, لكنه ممتنع عادة.

ومنه قول النظام:

توهمه طرفي فآلم خده ... فصار مكان الوهم من نظري أثر

وصافحه كفي فآلم كفه ... فمن صفح كفي في أنامله عقر

ومر بذكري خاطرا فجرجته ... ولم أر خلقا قط يجرحه الفكر

يقال: أن الجاحظ لما بلغته هذه الأبيات قال: هذا لا ينبغي أن يناك إلا بأير من الوهم.

وفي معنى البيت الأول قول الآخر:

وإذا توهم أن يراها ناظري ... ترك التوهم وجهها مكلوما

ومن الإغراق في المدح قول (الحسين) بن مطير:

له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس انعم

فيمطر يوم الجود من كفه الندى ... ويقطر يوم البؤس من كفه الدم

فلو أن يوم البؤس لم يثن كفه ... عن الناس لم يصبح على الأرض مجرم

ولو أن يوم الجود فرغ كفه ... لبذل الندى لم يبق في الأرض معدم

وقال إعرابي في النحول أيضاً:

<<  <   >  >>