أما النهار فلا أفتر ذكرها ... والليل توزعني بها أحلامي
أقسمت أنساها وأترك ذكرها ... حتى تغيب في التراب عظامي
وقوله وهو من الإغراق:
لو يدب الحولي من ولد الذر عليها لأندبتها الكلوم
يقول لو يدب الصغير من ولد الذر على جلدها لأثر فيه وجرحه. ولم يرد بالحولي ما أتى عليه الحول ولكن جعله في صغره كالحولي من ولد الحافر والخف في صغره.
وقوله, وهو من الغلو المقبول:
ولو وزنت رضوى بحلم سراتنا ... لمال برضوى حلمنا ويلملم
وقوله في وصف الحرب, وهو إغراق وتبليغ:
تشيب الناهد العذراء وفيها ... يسقط من مخافتها الجنين
فالأول إغراق لا مكانه عقلا وامتناعه عادة, والثاني تبليغ لا مكانه عقلا وعادة. وهو في شعره كثير جدا. فالمنازع في حسن المبالغة, وعلو رتبتها مطلقا مكابرة لا عبرة بقوله.
واعلم أن كثيراً ممن تشبث بعلم البديع أورد في نوع المبالغة التي هي بمعنى التبليغ بعض أمثلة الإغراق والغلو, توهما منه أنه تبليغ, ولم يميز بفهمه بين الثلاثة, وقد أوضحنا في أول هذا النوع ما يتميز به كل واحد منها عن الآخر, فلا تخل ذهنك منه عند الوقوف على الأمثلة.
وبيت البديعية الشيح صفي الدين في هذا النوع قوله:
كم قد جلت جنح ليل النقع طلعته ... والشهب أحلك ألوانا من الدهم
قال في شرحه: موضع المبالغة في بيت القصيدة عجزه. انتهى.
وبيانها: إنه أدعى بلوغ ظلمة النقع وشدة سواده إلى حد صارت فيه الشهب - وهي التي يغلب بياض لونها على سواده - أشد حلكة - أي سوادا - من الدهم - وهي السود - وهذا ممكن عقلا وعادة.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
يمم نبيا تباري الريح أنمله ... والمزن من كل هامي الودق مرتكم
كان أولى بابن جابر أن يبالغ في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكرم بأكثر من هذا, فإن المبالغة في مدحه عليه وآله والصلاة والسلام كلا مبالغة.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
إمدح وجز كل حد في مبالغة ... حقا ولا تطر تقبل غير متهم
هذا البيت لا يظهر منه إلا وصيته للمادح بأنه إذا مدح يتجاوز كل حد. قوله (ولا تطر تقبل غير متهم) لا يفهم ما غنى به, فإن الإطراء - كما في القاموس - المبالغة في المدح, فالنهي عنه لا معنى له هنا, ولعله له هنا, ولعله فهم للإطراء معنى آخر.
وبيت بديعة ابن حجة قوله:
بالغ وقل كم رجلا بالنور ليل وغى ... والشهب قد رمدت من عثير الدهم
بالغ ابن حجة في إعجابه بمبالغة هذا البيت, وليس تحته كبير أمر. أما صدره فمأخوذ من صدر بيت الشيخ صفي الدين كما ترى, وأما عجزه فعليه مؤاخذة ظاهرة, ونقد بين, وذلك: أنه عنى بالشهب النجوم بقرينة استعارة الرمد منها, والحرب لا تكون في الليل حتى يغشى عثير الخيل ضوءها فيخفي شعاعها, إلا إذا كانت تبييتا, والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبيت أحدا من أعدائه قط, ولا كان يرى ذلك, وليس من عاداتهم استمرار الحرب إلى الليل, بل إذا أمسى المساء تحاجزوا, ورجعوا عن مصافهم إلى مواطنهم. وبعد الإغماض عن هذه المؤاخذة المعنوية التي لا يحوم حولها فهم ابن حجة نقول: ليس في هذا العجز كبير مبالغة - وقد زعم أنه أبلغ من صدره - وذلك أنه أراد برمد الشهب في قوله (قد رمدت من عثير الدهر) على طريق الاستعارة التبعية: قلة إشراقها, وعدم شدة لمعانها, من الغبار الذي أثارته حوافر الخيل, ولا خفاء أن كل جيش سار بالليل وأثارت حوافر خيله الغبار ضعف معه إشراق الكواكب وهذا أمر واقعي لا مبالغة فيه فتدبره. ولعله فهم أن الشيخ صفي الدين أراد بالشهب في بيته (الكواكب) فأراد أن يحذو حذوه, وليس في بيت الشيخ صفي الدين ما يعين أنه أراد بالشهب الكواكب. ولو سلم فالمبالغة فيه التي في بيت ابن حجة قطعا كما لا يخفى.
وبيت بديعيتي هو قولي:
كل البليغ وقد أطرى مبالغة في هذا البيت أظهر من أن تبين, والإطراء هو المبالغة في المدح كما في القاموس فإنه قال: أطراه: بالغ في مدحه, وفي الصحاح, أطراه: مدحه, غير أن صاحب القاموس جعله مهموزاً وصاحب الصحاح يائيا. ودعوى كلال البليغ حال مبالغته في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم بالجود عن حصر بعض ما جاد به من النعم الجسام, والرغائب العظام, أمر ممكن عقلا وعادة.